في انحسار الزمن تحت ثقل الإنتروبيا - الإنتروبيا مصطلح اخترعه لأول مرة رودولف كلاوزيوس. لكنه لم يعطِ لا هو ولا غيره تعريفاً واضحاً له، حتى أدخل بولتزمان عليه مفهوماً إحصائياً بحتاً. فالإنتروبيا باختصار شديد هي مقياس لفوضى نظام معيَّن - وفي انشطار الوجود بين التلاشي والخلق، ينسج جان فرانسوا ليوتار في «أخلاقيات ما بعد الحداثة» سردًا يستشرف انهيار النظام كما نعرفه، أو بالأحرى، استحالته إلى صورة أخرى لا تعترف بمقاييس الحداثة. الحكاية ليست إلا انعكاسًا لنزاع كوني بين مبدأين: الأول هو التفكك الحتمي الذي تفرضه قوانين الإنتروبيا، والثاني هو القفزات العشوائية نحو نظام جديد يتشكل وفق احتمالات نادرة وغير متوقعة. في هذه المعادلة، الإنسان ليس سوى عارضٍ زائل، يتذبذب بين عقلٍ يشكل الواقع وواقعٍ يعيد تشكيل العقل.

لكن الأزمة التي يكشفها ليوتار ليست أزمة مستقبل بعيد، بل هي أزمة راهنة، تتجلى في اهتزاز الحقيقة، في تقويض الدولة وسيادتها، وفي تآكل الأشكال السياسية التي بدت لوهلة وكأنها انتصار للعقلانية والحرية. الديمقراطية، ذلك المشروع الذي ظن الحداثيون أنه الغاية المثلى، لم تعد أكثر من فكرة تائهة في فضاء لا يكترث إلا لفاعلية القوة وسرعة الانتقال بين الأنظمة.

يتجسد هذا التحول في لحظةٍ معاصرةٍ من خلال صعود نموذج جديد للسلطة، يجسده إيلون ماسك كأيقونة للنظام ما بعد السياسي. بدأ مساره من افتتان بالسفر إلى الفضاء، لكنه لم يكن افتتانًا علميًا بقدر ما كان مشروعًا لإعادة تشكيل الواقع وفق شروط رأس المال المطلق. المريخ ليس مجرد كوكب، بل هو استعارة لحلم الفناء وإعادة الولادة، حلم يتجاوز الدولة والقانون والمجتمع، حيث لا يبقى سوى ملكية فردية تعيد تعريف السياسة كمنظومة تعاقدية محضة. في هذا العالم، المؤسسات والتاريخ وحتى الإنسان ليسوا سوى متغيرات مؤقتة في معادلة السيادة المطلقة.


إيلون ماسك بهذا المعنى ليس شخصًا بل ظاهرة: تكثيف لعناصر العدمية النشطة تلك التي لا تؤمن بالإصلاح بل تعمل على تسريع انهيار القائم بغرض كشف بنيته التحتية، وتحويله إلى مادة خام لمشروع هيمنة بلا حدود. إنه يسعى إلى مضاعفة الفوضى بحيث تولد منها طاقة جديدة تعيد تشكيل علاقات القوة وفق منطق السوق، حيث لا وجود للأمم بل شبكات، ولا وجود للحدود بل فضاءات سيولة بلا نهاية.

هذا الحلم التكنوقراطي لا يضع اختيارات بقدر ما يخلق احتمالات قابلة للتسريع. فالمجتمع المدني كما نعرفه، لا مكان له على المريخ، تمامًا كما لا مكان له في عالم تحكمه المنصات الرقمية وعقود الملكية المطلقة. الأرض، من منظور هذا المشروع، لم تعد سوى محطة مؤقتة، ميدان تجارب لخلق الفراغ المدني الذي سيُعاد إنتاجه لاحقًا في الفضاء الخارجي.

الاستبدال هنا هو القاعدة، والكلمات التي شكلت روح الحداثة- الحرية، المساواة، الإخاء- لم تعد إلا علاماتٍ فارغة، هاشتاقات تتكرر ضمن دوائر مغلقة، لا تحيل إلى مرجع حقيقي سوى آلية اشتغالها الخاصة. هكذا تتحول الشبكات الاجتماعية إلى مساحات تتلاشى فيها الحقائق، حيث تصبح المعلومة مجرد ضوضاء اتصال، ويصبح الزمن السياسي مشوهًا تحت وطأة اللحظة الفورية. فالتاريخ نفسه، كما كان يُبنى على صراعات وتحولات، يُعاد تشكيله اليوم كحدثٍ شبكي بلا ذاكرة.

لكن هذا لا يعني أن مشروع ماسك استبدادي بالمعنى التقليدي، فهو لا يؤمن بالحكم بقدر ما يؤمن بتفكيك البنى التي تجعل الحكم ممكنًا. إنه لا يسعى إلى السلطة كغاية، بل إلى خلق منظومة تكون فيها السلطة بلا مركز، حيث تتكاثر مراكز القوة ضمن شبكة تتوسع كالفيروس، تتجاوز الحدود، وتتلاعب بمفاهيم السيادة كما يتلاعب رأس المال بالمجتمعات.

صلب هذه الرؤية ليس التكنولوجيا في حد ذاتها، بل مفهوم الزمن الذي يُعاد تشكيله وفق شروط رأس المال المطلق. الفورية هي القانون الجديد: لا انتظار، لا تخطيط، بل استثمار اللحظة بوصفها فرصة للتوسع. كل شيء يجب أن يحدث الآن، وبأقصى سرعة ممكنة. حتى الحروب، حتى الأزمات، ليست سوى وقود لهذه العملية.

في قلب هذا المشهد، يصبح الإنسان- أو دماغه- مجرد كيان قابل للاستبدال، شبكة من الذبذبات العصبية التي يمكن محاكاتها أو تجاوزها. وإذا كان ديكارت قد قال «أنا أفكر، إذن أنا موجود»، فإن ما بعد الحداثة التكنوقراطية تهمس: «أنا متصل، إذن أنا قابل للاستبدال». الإنسان لم يعد هو المركز، بل بات هامشًا في معادلة لا تبحث عن الثبات، بل عن التحول المستمر.

هكذا، يقف إيلون ماسك ليس كمبتكر بل كمهندس للفراغ: حيث لا تبقى السياسة سوى ظلٍ باهتٍ لمشروع أكبر، مشروع يمحو الحدود بين الافتراضي والحقيقي، ويحوّل العالم إلى مختبر دائم لإعادة إنتاج الهيمنة بوسائل لم تعد تحتاج إلى العنف التقليدي، بل تكتفي بخلق شروط الاستغناء عن كل ما كان يبدو يومًا ضروريًا. في هذه الرؤية، لا مكان للتاريخ، ولا مكان للإنسان، بل فقط تسارعٌ بلا وجهة، حيث يصبح العالم كله مادة أولية لحلمٍ تكنوقراطيٍ بلا نهاية.