في إحدى مرات جلوسي على مقاعد الانتظار في عيادةٍ طبية، بدا لي المشهد -الذي يضم فوضى الحركة في الممّرات، ثم انسيابية الدخول إلى الطبيب والخروج من عنده-كأنَّه درسٌ نقديّ وعلامة من علامات التحول بين شيئين، فالنَّاس يترقّبون خبرًا يُعلنه الطبيبُ الذي يقرأ نصوصَ أجسادهم. ومن الصُدَف أني كنتُ جالسًا على الكرسي الذي يقع أمام باب الدكتور مباشرة، فما إن يخرج المريضُ من عنده إلا وأستطيع أن أرى من وجهه تمثّلات ما قال له الطبيب، وإلى أي مدى عبسَ وجهه أو ابتسم، إذ كنتُ أتابع وجهَ المريضِ قبلَ الدخول لأرى مستوى التَّدهور أو التَّحسّن بعد الخروج. وقد يدخل أحدُ المرضى على الطبيبِ في موعدٍ لاحقٍ فيبتسم بعد أن عبسَ في المَوعدِ الأول، أو العكس، وهذا يعني تحولات في الجَسد، لهذا بدا لي أنَّ الكتابات الفلسفيَّة والأدبيَّة المُشرَّحة تتغيّر بتغيّر العرضِ على الناقد، فليس النَّصُ ثابتًا كما أنَّ الجسدَ ليس ثابتًا. أما سؤال كيف يتغير النَّصُ ولم يُزَد فيه حرف؟ فالزيادة تأتي من القراءة المتوالية والمتتابعة، التي تجعله بين يدي الطبيبِ مُتغيرًا.

نظريةُ العيادة يُمكِن تطبيقها على كثيرٍ من نُصوصِ الحياةِ، وربما هي كفيلةٌ بالجوابِ عن سؤال: كيف نُراقب بعناية وتركيز وصمت تحولاتنا البطيئة والدقيقة؟ ولننظر -مثلًا- في أغلبِ السّير الذاتيةِ المكتوبةِ والمرئيةِ لنشهد قفزات في التحولات تكاد تكون مكررةً وكبيرة، ولا أثر فيها للدّقةِ النَّقديةِ، التي ستجمع -لو تمت- بين خصوصيةِ الكاتبِ نفسه وخصوصية مؤلَفه، والثاني استنبات حدثٍ جديدٍ صغيرٍ مهم في ظلِّ أحداث كبرى، لكن ربما المسألة هكذا من جهة بعض المؤلفين: (الذين انخرطوا في أعمالٍ حاسمة في تاريخ ما، لا يُجيدون استخدام نظرية العيادة، والذين يُجيدونها لم ينخرطوا في الأحداث، فضاعت الأشياء الصغرى، وعَلِقنا بالتاريخ الظاهر الكبير الذي صار مكررًا في كل كتاب وسيرة).

إلا أنَّ نظريةَ العيادة لا تتوقّف على قدرةِ الكاتب/المريض في إدراكِ تحولاته الصغرى، بل في قدرةِ الطبيب/القارئ الحاذق، لهذا يُمكِن استخدام النظرية لإعادةِ قراءة هذه السِيَر والكتابات التاريخيّة، لاستخراج ما يُمكن استخراجه من تحولات صغرى، أي تلك التي لم يذكر المؤلفُ أنها تَحوّلٌ، بل جاءت في سياقٍ باهت أو عام يصرف العينَ الساذجةَ عن أعماقها، والمراد أنَّ الكاتبَ/المريضَ يقفز -كعادة كُتَّاب التحولات- في تَصوّر التغيّرات التي جرت له، وفي الوقتِ نفسِه ينغمس في ذكرِ الأحداثِ التي يغرفها من أعماقِ الذاكرةِ فيأتي طبيبٌ نطاسيّ ناقدٌ فيُخرج لنا التَّحولات بالكتابةِ نفسِها، كمثلِ المَريضِ بين يدي الطبيب. وأظنُّ أنَّ أبا حامدٍ الغزّالي مثالٌ جيد على ما تقصده المقالةُ، إذ هو ممّن اشتُهِر بالتَّحول الكبير، لكنَّ المهمَّ هو التَّحولات الدقيقة التي تَمرُّ في مؤلفاته مرورَ الكِرام ولا تلتقطها العينُ الساذجة، ولا يُخرجها إلا قارئ حاذق يقرأ الكتابةَ كما يقرأ طبيبٌ نطاسيٌّ الجسدَ وهو مُسجّى في سرير العيادةِ، ويُوضِّح هذا المعنى تعليقٌ لأحمد أمين يقول فيه: «لمَّا أصِبتُ في عيني، نهاني الطبيبُ عن الكتابةِ فلجأتُ إلى الإملاءِ، ولكن لم تتدفّق المعاني كما كانت تتدفّق وأنا أكتب» كان أحمد أمين يتغيّر أثناء الكتابة، وهذا هو المعنى العميق لكلامه، ولكن مَن يتلقّفه برهافةٍ كرهافة الحروف ويعيد قراءة سيرة القرن العشرين العربي بعيونٍ خاصة؟ ثم مَن يستخرج هذه التحولات الأمينيّة من داخل كتاباته بناء على نظرية العيادة؟


ومن هنا فإنَّ المتتبّع لما كُتِبَ عن حياةِ الغَزَّالي، سيجد أنَّه مصنّفٌ على مرحلتين، مرحلة استقرار ومرحلة تَحوّل كُبرى نَتَجَ عنها الرؤيةُ الغَزاليّة الأخيرة، وهذه نظرةٌ لم تدخل في معتركِ الطبيبِ والمريض، معترك نظريةِ العيادة، لأنَّ الغزاليَّ في مرحلته التي تُسمَّى استقرارا، كانت تشهد تحولات صُغرى تتجلَّى من بين سطور كتاباته، وليست هذه المقالة لدراسةٍ مفصلةٍ عن كتاباتٍ غزاليّة، الكتابات التي نجد في كل سطر منها تحولًا عجيبًا، لكن على سبيل المثال يُمكن أن نشير إلى مسألة (حدوث العالم) التي عالجها كطبيبٍ نطاسيٍّ في كتابه تهافت الفلاسفة -الكتابِ الذي لم يكتبه حتَّى سَطَّر مقاصدَ الفلاسفة- وتعامل معها المؤرخون على أنَّها مسألةٌ أوردها الغَزاليٌّ ليُقرر رأيًا، وينقضَ حجةَ الفلاسفة القائلين بقدم العالم، بينما هذا ظاهرها كما يظهر المريضُ مسجّى في العيادة، لكنَّ اكتشافَ أعماق جسده فأمر يصل إليه الطبيب النطاسي، لأنَّ مسألةَ حدوث العالم كانت تَحَوّلًا حَلَّ بالغزاليّ أثناء الكتابة، تحول متعلق بالإرادة ومفهومها.

ولبيان هذا الأثر الذي أدار رأسَ الغزالي وأسكره آنذاك وامتدَّ حتى لا يُعلم له أمد، سأكتفي بتذكّر حكايةٍ تُروى عن الغزالي في آخر عمره، وهي أنَّ أحد تلامذته أيام بغداد رأى الغَزاليَّ وعليه ثيابٌ مرقّعة، وبيده عكّازة، فقال له: يا أبا حامد، أليس تدريس العلم ببغداد خيرًا من هذا؟ فنَظر الغزاليَُ إليه شزرًا وقال: «لما بزغ بدر السَّعادة في سماءِ الإرادة، وجنحت شمسُ الأصول إلى معارف الوصول:

تركتُ هوى ليلى وسعدى بمعزل/وعدتُ إلى تصحيح أول منزل. ونادت بي الأشواقُ مهلًا فهذه/منازل من تهوى رويدك فانزلِ. غزلتُ لهم غزلًا دقيقًا فلم أجد/ لغزلي نسَّاجًا فكسَّرتُ مِغزلي» هذه العودة إلى البداية لم تكن عودة ساذجة لبراءةِ البداية، بل عودة لتصحيحِ أولِ منزل، ذلك الذي لا يصح أن يكون على ما هو عليه، ولن يُستَطاع تغيير سيرورة الحياة إلا بالإرادة التي شرح بها الغزاليُّ كيف يكون العالم حادثًا وقديمًا في آنٍ واحد.

التفاتة:

الغزل الدقيق الذي غزله الغزاليُّ هو الكتابة النوعية الدقيقة واللحظات التي يتغير فيها الإنسانُ ببطءٍ وصمتٍ دون أن يلحظه أحد. وإذا كسَّر الغَزاليُّ مغزلَه فلأنَّه لم يجد -حينها- لغزله طبيبًا نطاسيًّا، أمَّا لاحقًا فتعرَّض لغزله أطباء عامّون ينتظرون التخصّص.