ثم نجد أننا ولَمَّا نزل في مصيبتنا في غزة، حيث توقف الضرب، والتفتنا إلى إعادة الإعمار، نفكر فيه وكيف سيكون ومن سيتولاه، حتى جاءتنا مصائب أُخر، منها الوعيد من رئيس الولايات المتحدة بتهجير أهل غزة، وهي مصيبة على أهل غزة تشغلهم عن التفكير بإعمار ما دُمر إلى الخوف على قضية فلسطين بأسرها، لا سيما وكلام ترمب ليس هزلياً كما يتصور البعض، بل هو يتكلم بما يفكر فيه بالفعل، وتهجير الفلسطينيين جميعاً في الضفة والقطاع وفي الداخل الفلسطيني أمر مقرر لدى اليهود إلا أنهم يختلفون في الزمن الذي يكون فيه، فبينما يرى نتن ياهو أنه في عام 2020 الماضي كان من المفترض أن يكون تم إجلاؤهم يرى آخرون غير ذلك، لكن أصل المشروع متفق عليه، والجديدُ في هذا الأمر كونُ الولايات المتحدة تتحدث علناً في هذا الموضوع.
المهم سواء نجحت أمريكا واليهود في هذه الخطوة أم فشلوا فيبقى هذا الحديث مصيبة ينبغي الوقوف معها وقوفاً شرعياً وعدم الخوض فيها من كل أحد بحسب تصوراته الشخصية تارة وبحسب أهوائه تارة، أو بحسب ما يُمليه عليه توجهه السياسي المعارض للحكومات تارة أخرى، وحديثُ كلٍ بحسب رؤيته قد يُكسبُ البعض في خدمة توجهه ورأيه الخاص؛ لكننا لن نكسب حتماً في قضيتنا أو لنقل في كبح مصيبتنا.
وكم قد أَوْدَى بنا اتِّبَاعُ من يُسمون النخب المثقفة للعقول السارية خلف العواطف والأهواء والتوجهات السياسية والرؤى التي لا تستند إلى يقينيات منذ زمن طويل، وهم اليسار أياً كان توجهه، سواء أكان يساراً عروبياً أم يساراً وطنياً أم يساراً إسلامياً، وإن لم يصف أحدهم نفسه باليساري، ولن أبدأ لك الحديثَ عن العهد الناصري والجهالات التي ابتدأت منذ ذلك العهد، ولا عن القاعدة وما جر التعاطف مع ابن لادن والزرقاويِ والخريفِ العربيِ وداعشٍ على الأمة، لقد مشت العقول والأهواء خلف هذا كله، وأخيراً لم تجد منه شيئاً مما أحبته، لا نصرة للإسلام وأهله، ولا محبة للمسلمين، ولا عزة على الكافرين، بل لم يكن كثير منه سوى بتآمر دولي مبدؤه الاستخفاف بعقول المسلمين وشخصياتهم، وثبت ذلك بوثائق دولية ووقائع معروفة للجميع وليس هنا الحديث عنها؛ لكنني أتحدث عن فشلها وكيف أن هذا الفشل جاء ومعه عدد من النكبات، منها تسليط العابثين على أهل السنة في العراق زمناً، وقتل أهل السنة بتهمة الإرهاب حتى مَنْ كان بريئاً، وتأخيرُ النصر في سوريا عشرة أعوام، وكوارثُ التقتيل على يد حزب الخراب المسمى بحزب الله؛ وفي مصر تسلط التكفيريون بالقتل والتخريب في سيناء، وكانوا يُلاقون دعماً من النخب المزعومة على وسائل التواصل وهم لم يذوقوا على أيديهم ما يذوقه السينائيون.
نعم هناك ما يُجمِع الفقهاء على نقده، ولكن ذلك ليس له علاقة بالاقتصاد أو الحياة الوطنية، ويمكن نقده وَفق أنظمة البلاد وبالرفق والهون، ودون تعيير أو سخرية أو استهزاء، تُقَلَّبُ به القلوب ضد الأوطان، وتذهب بالحمية لها، ولا يستفيد منها سوى الصهاينة وسائر الأعداء لا غير.
واليوم تقف المملكة العربية السعودية ومصر والأردن، في موقف عظيم لتصحيح موقف الرئيس الأمريكي من سكان غزة، وهو موقف خطير جعل أهل غزة يعيشون قلقاً لا أظن أنهم عاشوا مثله من فترة الثمانينيات الهجرية [ الستينيات الميلادية]إلى يومنا هذا رغم ما مر بهم من ويلات طيلة تلك السنوات، ولم تكن الدول الثلاث سبباً في هذا القلق الذي عَمَّ غزة، بل سببه الكيان الصهيوني ومنظمة حماس التي لم يتحدث ترمب ولا نتن ياهو عن إزالتها، لأنها كما يُخططون ستبقى مثيرة للقلاقل ضد أهل غزة حتى إشعار آخر، وليت الدول العربية في مؤتمر وزراء الخارجية في مصر يكون من بين قراراتهم قرار بإنهاء سلطة حماس، وإصلاح السلطة الفلسطينية والتغيير الضروري فيها حتى يتسنى لها العمل في غزة، أما بقاء حماس في هذا الوضع الذي تَدَّعِي فيه القوة كي تضرب بلادها وتهدم دورها ويُهَدَّد بقاؤهم في بلادهم فليس أمراً مُرْضِيَاً لمن أعمل عقله وجعل الشرع حكماً بينه وبين واقعه.
فالشرع موجب لطاعة ولاة الأمر في غير معصية الله، والشرع محرم لسبهم وشتمهم ونقدهم على الملأ كما يفعل الآن هؤلاء المُسمون نخباً، والشرع موجب لمناصرتهم فيما لم يعصوا الله فيه، وكل هذه الأمور معروفة سَلَفَاً لكل أولئك الذين على وسائل التواصل، لكنهم يسخرون ممن يدعو لها ويصفونه بكل جريرة كالعمالة والصهيونية وغير ذلك من العبارات التي لا تزيد العاملين بما يرضي الله إلا صبراً، كما لا تزيد الشانئين إلا وبالاً، وأخشى أن يكون ذلك الوبال مما يعم ضرره ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الحاصل أننا تحملنا الكوارث التي تسبب بها من يسمون النخب زمنا طويلاً، واليوم نطلب من هذه النخب التنحي عن إبداء الرأي في الواقع المعاش، والتخلي عن الفكرة المسبقة عن خيانة القادة لأوطانهم والتي رفعوها طويلا جداً دون أن يقدموا دليلاً عليها، فنحن نسمع منهم أن القائد الفلاني عميل ويعمل لصالح الأعداء ضد بلده، وعند السؤال عن الإثبات نجد كلاماً لا قيمة له.