قَبل التقاطكَ للصّورة هل فكّرت في مساعدة الطّفلة؟ هل قدَّمت لها طعامًا أو ماء؟ هل منعْتَ عنها الخطر؟

هكذا توجّهت صحافيّة شابّة بغضب وهي تسأل الصحافيّ كيفين كارتر، الذي التقط إحدى أشهر الصور في التاريخ في العام 1993 في قرية أيود جنوب السودان؛ الصورة التي تُظهر طفلة صغيرة أنهكها التعب والجوع قَبل أن تَصل إلى غايتها، وخلفها مباشرةً يَقف نسرٌ ينتظر أن تسقط كليًّا، أن تموت حتّى تصير طعامًا له.

وبعد يوميْن نشرت صحيفة «النيويورك تايمز» الصورة ووضعت أسفلها تعليقًا يقول: «طفلة صغيرة أضعفها الجوع تنهار في طريقها إلى مركز لإمداد الطعام في منطقة أيود والنسر بجوارها يترقّب». آنذاك تلقّت «النيويورك تايمز» مئات المكالمات التي تُعيد طرْح سؤال الصحافيّة الشابّة نفسه، وتتساءل بما يشبه الاحتجاج عن مصير الطفلة الصغيرة، بعيدًا عن المأساة التي نقلتها الصورة عن المجاعة في السودان!


في الوقت الذي التقط فيه «كيفن كارتر» صورته الشهيرة، أي في بداية التسعينيّات من القرن الفائت، كان استخدام الكاميرا حكرًا على الصحافيّين وبعض هواة التصوير ومُحترفيه، هذا يعني عددًا أقلّ من الكاميرات المُستعمَلة في العالَم. أمّا اليوم فمع طفرة التكنولوجيا والانتشار الواسع للهواتف الذكيّة بالكاميرا وتنافسها في جودة الكاميرات وسهولة استخدامها، أصبح بإمكان الجميع توظيف هذه الآلة السحريّة.

فعددُ الهواتف الذكيّة التي يَستخدمها الناس تجاوزَ في العام 2020 ستّة مليارات هاتف ذكي، أي ستّ مليارات كاميرا. من دون أن نتحدّث عن عدد كاميرات المراقبة التي تصل في مدينة لندن وحدها إلى 4.2 ملايين كاميرا! هذه الأرقام تعني أنّ التوجّه إلى موضوعٍ ما، بواسطة كاميرا لم يَعُد حكرًا على أحد، هو مُتاح أمام الجميع وهو حقّ للجميع. وهذا يدفعنا إلى التساؤل اليوم، هل أصبح للسؤال الأخلاقي السابق الذي واجهه الصحافيّ «كيفن كارتر» المعنى نفسه؟ أي هل نفكّر قَبل أن نتّخذ من موضوعٍ ما صورًا نلتقطها، ننشرها ونعلّق عليها؟

الأكيد أنّ هذا التفكير في الجانب الأخلاقي للصورة تلاشى مع مرور الزمن واختلط فيه الجانب الأخلاقي بجانب الحريّة ولم يعُد تقنينه أمرًا سهلًا. ملايين الصور والفيديوهات تتمّ مشاركتها كلّ ساعة، وكلّ يوم، تعرض خصوصيّات الناس: مواقفهم، سلوكياتهم، مآسيهم، عذابهم، أفراحهم، أخطاءهم ونجاحاتهم. كلّ يوم تتصيّد الكاميرات كلّ حركات الناس وتلتقط الغريب منها، وهذا الغريب لا حدود له. ولو افترضنا أنّ هناك إذنًا مسبقًا قَبل التقاط كلّ الصور لما حصلنا بالتأكيد على هذا العدد الهائل من الصور والفيديوهات لمَن كانوا موضوعاتٍ لها، ولرفضوا رفضًا قاطعًا أن تتلصّص عليهم وعلى حياتهم عدساتٌ يحملها أشخاصٌ، أغراب أحيانًا، وكأنّهم يحملون أسلحةً موجّهة. ولعلّ في الحركة الفطريّة المتمثّلة في إخفاء الوجه حينما يقوم أحدهم بمُباغتتكَ بصورة هو موقف الناس الحقيقي من المتلصّص على حياتهم.

الصورة والموضوع

في الماضي القريب كانت الكاميرا تُشَبّه بالسّلاح، هذا تشبيه غريب! لكن في زوايا ما، أصبحت الكاميرا مثل السلاح في يد البعض، وفي دائرة التشبيه السابق نفسه كانت ولا تزال السينما الأجنبيّة، وخصوصًا الأمريكية، تُواجِه سيلًا كبيرًا من النقد كونها تتجاوز الفنّ أحيانًا لتَسقط في المحمول الإيديولوجي الموجّه. هذا كلام صحيح لا يُمكن أن ينكره أحد، لكن في حالاتٍ محصورة، لكن لا يُمكن تعميمه كذلك. فالكاميرا كانت في هذا الماضي حكرًا على مَن يستطيع التواصل من خلاله وتحويلها إلى صناعة. لكن اليوم مع استحضار الرقم المهول 6.5 مليارات كاميرا هاتف محمول ألا يُمكن أن نقول: إنّه صارَ كلُّ مَن يتناول موضوعًا تناولًا غير بريء ينطبق عليه الحكم السابق؟

وبالعودة مجدّدًا إلى حالة «كيفن كارتر» الذي أثار سخط الناس عندما شاهدوا موضوع صورته الصادم، وغضبوا وصرخوا وربّما بكى كثيرون منهم وتحوَّل غضبُ مَن شاهَدَ الصورة إلى مُساءَلةِ المصوّر عن شعوره الإنساني الذي توقّف في لحظة وغلّب شعورًا آخر يتولّد مباشرة مع حملكَ لكاميرا وامتلاككَ قدرتها السحريّة في خطف الموضوع وتخليده. هذا الشعور الطارئ مع الكاميرا الذي كان محصورًا قَبل عقدَيْن، صار الآن شعورًا كونيًّا، صار شعورُ مَن يحمل كاميرا، صار شعور 6.5 مليارات إنسان، الموضوع بالنسبة إليهم أهمّ من أيّ شعور أو إحساس. وقد ظهرتْ ملايين الصور التي تنقل لنا كيف صار الإنسان يفكّر في نقْل الموضوع قَبل أن يفكّر في أيّ شيء آخر، صار شعورًا غريزيًّا، اليد موضوعة على زرّ الهاتف تنتظر الضغط، مثل المسدّس؛ وهذا التفكير حلَّ بدلًا من مشاعر إنسانيّة كالتفكير في تقديم المساعدة مثلًا، مع أنّ حالات إنسانيّة كثيرة كانت رهنًا بهذه المُساعدة! لكن مَن حضرَ من الناس فضّل تخليد المشهد على تقديم مساعدة، فتخليد موضوع ما صار تفكيرًا غريزيًّا لدى حامل الكاميرا.

وهنا تأتي صورةٌ أخرى لا تقلّ شهرة عن صورة كارتر، هي صورة عكسيّة تمامًا تفضح مُمارسات المصّورين، إنّها صورة المصوِّر السويدي «بول هنسن» وعنوانها «جثّة و14 مصوّرًا»، عندما التقط صورةً لجثّة سيّدة مُحاطة بأربعة عشر مصوِّرًا يلتقطون صورًا لها عقب زلزال هايتي في العام 2010، الصورة التي فضحتِ الإحساسَ الجديد، إحساس تخليد اللّقطة وإهمال شعور الإنسان! فالمصوِّر هنا لم يتوجّه كغيره إلى الموضوع الأوّل، أي الجثّة، بل صوَّر رفاقه وهُم منقضّون على جثّة في حالة تُشبه انقضاض قطيع ذئاب على فريسة لا تملك قوّة! وهذه الصورة هي في الحقيقة نموذج لنمط آخر عكسيّ يقوم به مصوّرون آخرون يفضحون الإحساسَ الجديد وينتصرون لشعور الإنسان الطبيعي.

سيكولوجيا حامل الكاميرا

بعد طفرة الهواتف الذكيّة وعصر وسائط التواصل الاجتماعي، تعاظمتْ قيمة الصورة ودورها الإعلاني، وتعزَّز الإحساسُ بالنجوميّة؛ ويصف عبداللّه الغذّامي هذا الواقع الجديد بالقول «من أهمّ التغيّرات دخول فئات بشريّة إلى عالَم الاستقبال الثقافي، وهي تلك الفئات التي كانت مهمَّشة في السابق، إمّا لسببٍ يعود إلى عدم قدرتها على القراءة بسبب الأميّة، أو لسببٍ اقتصادي لعدم القدرة على شراء الكُتب والجرائد، وهذا كان يَحصر دوائر الثقافة حين سيطرتِ الكتابةُ حيث انحصرتِ المعرفةُ في فئاتٍ محدّدة وتغيَّب كثيرون ممّن صاروا على الهامش، وقد أفضى هذا إلى ظهور النّخب الثقافيّة، وعلى ضفافها هوامش عريضة من الأميّين» (الثقافة التلفزيونيّة، سقوط النّخبة وبروز الشعبيّ، المركز الثقافي العربي، ط2، 2005، ص12). الفئات التي كانت مُهمَلة في الماضي صارت صانعة للحدث، ولم يَعُد هناك وسيطٌ يحول بينها وبين التعبير، ولعلّ أهمّ مجال تعبيري تتيحه الوسائط الجديدة هو المُشارَكة partage Le. هذا المعطى الجديد الذي يستطيع الجميع بكبسةِ زرّ واحدة أن ينشر صورَهُ وما يكتبهُ على حائطه. هذا المجال التعبيري الرحب صار يعزِّز لذّةَ امتلاك الصورة الذي لا يَكتمل إلاّ بمُشاركتها، وهكذا يتمّ في كلّ ثانية مُشاركة ملايين الفيديوهات والصور التي تَنتهك خصوصيّات الناس، مُعاناتهم لمجرّد المتعة أو التعاطُف أو أحيانًا لمجرّد المُشاركة وتحقيق تلك اللّذة، لذّة امتلاك الصورة ومُشاركتها والحصول على رضى المُتابعين.

الصورة وتزييف الحقيقة

عبر تاريخ الإنسان على الأرض لم يحدث أن عاش عصرًا مثل الذي يعيشه الآن والذي سيعيشه مستقبلًا في مناحٍ كثيرة، والصورة في سياق هذا التطوّر استطاعت أن تُغيِّر من حياة الناس وذاكرتهم. كتبٌ كثيرة دوِّنت، وتناقلتِ الأجيالُ الأخبار والتجارب. لكنّ التاريخ يبقى تاريخًا تحكَّمت فيه المصالح والعداوات والحروب، والمُنتصِر يسجِّل ما يشاء. هذه القاعدة تستمرّ الآن، لكنْ بطرقٍ مختلفة. الصورة الآن صارت تَكتب التاريخ. وحتّى قَبل اختراع التصوير كان هناك اعترافٌ كَوْنيّ بتفوُّق الصورة؛ هذا ما تؤكّده مجموعةٌ من الأمثال والعبارات المأثورة لعلّ أبرزها ما قاله كونفوشيوس: «الصورة خيرٌ من ألف كلمة»، أو ما نلمس في مقولة: «ليس مَن رأى كمَن سمع»، فعل الرؤية هنا حاسم وصادق، ليس كفعل السمع. الصورة تبعًا لذلك ارتبطت بالتصديق، لكن هل الصورة صادقة؟ في سياق هذا الكلام يقول عبدالله الغذّامي: «ما جرى في عصرنا هذا بعد اختراع السينما أنّ الصورة أخذت بُعدًا جديدًا، فهي صورة تتكلّم وتتحرّك، هذا تحوُّلٌ كبير في ثقافة الصورة يجعلها تختلف عن الكلمة المكتوبة... ثمّ جاءت فكرتا «الإخراج والمونتاج» السينمائيّين، وهُما فكرتان صار لهما دَور كبير وخطير في عمليّتَيْ التصديق والتكذيب، وحينما سادت فكرتا التصديق والتكذيب، لم يعُد ما تراه العَين هو بالضرورة شيئًا لا يَقبل الكذب» (المرجع السابق). ومع الوعي المتزايد لهذه القيمة، صار الاستثمار فيها لمَن يحلم بالسيطرة والتحكُّم في العقول. وقد قدّمت الصورة إلى مَن أراد هذه الغاية أكثر ممّا أراد وفوق ما تخيَّله العقلُ يومًا. لكنّ الصورة عندما اقتحمت خطابَ الإعلام واندمجت مع آليّاته واستعارت الحركة من السينما وعلوم الاتّصال صارت تمتلك طُرقَها لإقناع الجماهير بما تريد ووقت ما تريد. وهذا ما فتحَ آفاقًا كبيرة أمام الصورة لتزييف الخبر أيضًا، ولأن تؤثِّر في عقول الناس وتدفعهم للاقتناع بتبنّي أفكار، وتغيير مواقف وقبول مواقف كانت مناقضة لها. الصورة الآن تتحكَّم فيها المصالح. ومَن يمتلك الصورة يَمتلك الحاضر والمستقبل.

الصورة واللقطة والحقيقة

هل العالَم الذي تعرضه مقاطع فيديو، بغضّ النّظر عن موضوعه، حتّى إذا ما افترضنا أنّه يَعرض حديقةً وسط مدينة، يُقدِّم الحقيقة؟ الحقيقة هي ما تراه العيْن بشكل مباشرٍ وعيْنيّ وآنيّ. أمّا ما يعرضه الفيديو فهو اجتزاءٌ للحقيقة وقبضٌ على جانبٍ منها في زمانٍ ما ومكانٍ ما.

الحقيقة الغائبة التي يعرضها فيديو تصير أكثر غيابًا مع الصورة الثابتة. كون الصورة هي اجتزاء أدقّ وأكثر توجيها وتحكُّمًا، إضافة إلى قدرة برامج التعديل على تغيير الموضوع والسياق. واليوم كما نلاحظ صارت اللّقطة غايةً لدى كلّ مَن يحمل كاميرا، بغضّ النّظر عن كلّ الحقيقة التي صارت غائبة عن أغلب ما نراه من صور.

أخيرًا، وقبل عقدَيْن، كان المشتغلون في حقل الصورة يتبنّون شعار أنّنا نعيش عصر الصورة، ونتواصل بواسطتها، لكن ما حمله الواقع الجديد يفوق بكثير ما كان يعتقده الجميع. هذا المجال طَرَحَ الكثير من الأسئلة التي تتجدّد باستمرار. الآن لم يعُد السؤال متعلّقًا بالتواصُل بواسطة الصورة فقط، بل بالكلفة الأخلاقيّة لهذا التواصُل.

*كاتب وناقد سينمائي من المغرب

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.