الكتابة المستوحاة من حياة مجتمع قبل نصف قرن تأخذ ملامح الأدب الواقعي،ما يجعلها جسور إتصال بين الأجيال ، باعتبارها من روافد التاريخ الإجتماعي.

في سلسلة الماضي الجميل صدر الشهر الماضي كتاب "المعجزة" في جزئه الثالث للكاتب عبدالرحمن بن سعيد أبوملحة ، إشتمل على ثمان عشرة قصة تُجسد الصبر ، الحكمة ، الطموح ، الهمم العالية ، سمو الأهداف ، التضحيات.

وهذا اللون الأدبي النثري يتطلب ذاكرة قوية، ومهارة في الكتابة ، وترتيب الأحداث ، واختيار الشخصيات ، حسب الزمان والمكان ويُشبه عمل لوحات الفُسيفساء في التصميم وإختيار القطع والألوان.


واعتقد أن الكاتب في اسلوبه الجميل وإيجازه المتقن نجح في لفت إنتباه القراء وكانه يتحدث معهم ويُثيرحالة من الدهشة والإعحاب.

وأتذكر أن الأديب المصري أنيس منصور صنف الكُتاب إلى ثلاثة :

كاتب حين تقرأ له تعتقد أنه يُحاضرك ، وآخرتتخيل انه يُداعبك ، وثالت تشعر أنه يُحدثك.

وحمل الكتاب عنوان " المعجزة" والمقصود عقبة شعار كأهم مشروع تنموي شهدته منطقة عسير في أوائل الثمانينيات الميلادية.

وروى المؤلف كشاهد عيان حين كان مديراً عاماً لإدارة المواصلات بالمنطقة، البدايات الأولى للمشروع ، والصعوبات التي واجهت المهندسين والمصممين ، والمساحين، ومنها النزول بالحبال من اعالي الجبال لرسم المسار ، ثم السير على الأقدام مرات في بعض الأماكن ، ومرات أخرى يركبون الدواب حتى الإنتهاء من وضع علامات الطريق،موضحاً ان مرحلة التنفيذ قامت بها شركة صينية بمشاركة أربعمائة عامل ، واستغرق فتح الطرق الجانبية الترابية ثمانية عشر شهراً حتى وصلوا إلى الطريق الرئيسي.

وزادت المعاناة بسبب حفر الأنفاق والإنهيارات ، ولكن بتوفيق الله ، ثم متابعة المسؤلين ، واستخدام أحدث الأجهزة والمعدات العلمية والهندسية إنتهى المشروع الذي يُعتبر من الشواهد الحضارية الفريدة التي يفتخر بها الوطن والمواطن.

وفي القصة الأولى "عرعر عسير في حماية الأمير" تطرق الكتاب إلى إهتمام الأمير خالد الفيصل آنذاك بأشجار العرعر المعمرة ، وتاثيرها الإيجابي في البيئة،حيث أصدر تعليمات مشددة تمنع قطعها، وعدم العبث بأماكن الغابات،ووجه بدراسة النباتات الطبيعية عن طر يق متخصصين للمحافظة على الغطاء النباتي.

وأجاد أبو ملحة في سرد قصة طريفة عن إنتشار مرض الجدري في أبها ، والقرى المجاورة ،ونفاذ كمية اللقاح في تلك الفترة ما جعل الدكتور فؤاد أبو غزالة رحمه الله ينفذ فكرة علمية طبية غير مسبوقة، تمثلت في شراء حسيل "عجل" ليحقنه بكمية من لقاح الجدري، وتركه يتفاعل، ليستخرجه بعد فترة ويقوم عن طريق إستخدام مشرط صغير بإحداث جرح صغيرعلى سطح جلد العضد لكل المستهدفين ، ليضع فوقه اللقاح حتى يحفز الجسم على إكتساب المناعة. وتُسمى "الوتنة"، وحققت الفكرة بتوفيق الله نجاحاُ كبيراً في التحصين ومنعت إنتشار الوباء.

والمح الكاتب الى شخصيات إجتماعية كانت قدوة في الحياة ومنهم الشيخ علي بن محمد الجواهرة ، الأديب الشاعر أحمدمطاعن ، الرجل المحتسب عبدالمجيد العسكري، ابو المبتعثين عبدالعزيز المنقور، رحمهم الله.

وأوضح عبد الرحمن أبو ملحة أن كتابه فيه من الدروس والعبر إستقاها من تجارب الآخرين وعايش بعضها.

وقال في كلمة تصدرت الكتاب." إنها صفحات حملت صوراً لأشخاص خبروا الحياة، وعركتهم ،عاشوها دون تذمر ، فكانوا مثالاُ لأبناء جيلهم ، وقدوة لجيل جديد.

.