عَهِدتُ حُبّي لِجدّي عَبْدالله فِلْبِي رَحِمَهُ الله سِرّاً كَامِنَاً فِي كيَانِي، أَحمِلُهُ وَ أَرعَاهُ بِكُلّ حِرصٍ، وَ مَا زَالَ سِرّاً دَفِينَاً رغْمَ كُلّ مَا عَبّرتُ عَنهُ بِالكَلِمَاتِ وَ النّظَرَاتِ وَ الدّمُوعِ أَمَامَ مَرأَى الجَمِيع. لَو بُحْتُ بِالمحبّةِ لَهُ دَهْرَاً وَ بَكيتُ الاشْتِيَاقَ إِلَيهِ بَحرَاً، لَنْ أوفِيهِ قَدرَ الامْتِنَانِ الذي يَسْتَحِقّهُ مِنّي.

لا أَجْهَلُ شُعُورَ الحَنِيْن، وَ لَا أَسْتَنكِرُ لَوعَةَ الفرَاق، لَكنّني وَجَدتُ المُصطَلَحَات اللّغَويّة غَير وَافِيَة عِندَمَا وَجّهْتُ هَذَا الشّوقَ لِجَدّي، لِمَن لَمْ أَرَهُ بِأُمّ عَينِي وَ لَمْ أَعِش مَعَهُ لَحظَةً وَاحِدَةً أَستَرجِعُهَا فِي جَوفِ اللّيَالِي لَيَبتَسِمَ لَهَا ثَغرِي. لَكِن بِرَحمَةٍ مِمّن خَلَقَهُ وَ خَلَقَنِي، وَجَدتُ سَرِيرَتِي مَلِيئَة بِأَلفِ ذِكْرَى وَ أَلْفَ مَعنَى، بِأَلفِ رِسَالَةٍ وَ أَلفِ مَغزَى، لَهَا يَبتَسِمُ وجْدَانِي وَ بِهَا يَسْتَقِيمُ ظَهْرِي. عَلّمَنِي رغمَ انْعِدَامِ اللّقَاءِ جلّ مَا أَفطنُهُ مِنْ مَوَاعِظِ الحَيَاة، وَ وَجّهَنِي رغمَ البُعدِ لِسَبِيلِ اليُسرِ وَ المَسَرّةِ مُنذُ وِلَادَتِي وَ حَتّى مِيعَادِي مَعَ الوَفَاة.

اختَارَ الله لِهَارِي فِلْبِي أَنْ يُولَدَ فِي الثّالِثِ مِنْ أبْرِيل، كَمَا اخْتَارَ لِيَ يَوْمِ المَوْلِدِ نفسه بِفَارِقِ مِئَة وَ تِسعَةِ سِنِين، حِكْمَة وَ لَيْسَت صُدْفَة.

نَشَأَ الصّبِيّ الإِنْجِلِيزِيّ الشّغُوفُ بِالتّثَقّفِ وَ المُحِبّ لِلْمُغَامَرَةِ نَشْأَةً آلَتْ بِهِ إِلَى إِتْقَانِهِ عِدّة لُغَاتٍ مِثْلَ العَرَبِيّةِ وَ الفَارِسِيّةِ وَ البنْجَابِيّةِ وَ الأرْدِيّةِ، نَشْأَة قَادَتْهُ إِلَى صَقْلِ شَخْصِيّتِهِ الجَذّابَةِ التِي تَوَلّت عِدّةَ مَنَاصِب، نَشْأَة جَعَلَتْهُ بِاخْتِصَارٍ شَدِيْدٍ عَبْدالله فِلْبِي، وَ تِلْكَ رِوَايَةٌ لَا يَسَعُنِي حَتّى اخْتِصَارَهَا فِي سُطُورِي المُتَوَاضِعَة.

خَطّ عَبْدالله فِلْبِي رَحِمَهُ الله العَدِيْدَ مِنَ الكُتُبِ القَيّمَةِ مُسْتَنِدَاً عَلَى حَصِيْلَةِ رحْلَاتِهِ فِي شِبْهِ الجَزِيْرَةِ العَرَبِيّةِ وَ قَطعِهِ لِصَحرَاءِ الرّبعِ الخَالِي القَاحِلَةِ، كَمَا سَاهَمَ جُغرَافِيّاً بِإجَادَتِهِ لِرَسمِ الخَرَائِط ِالّتفصِيلِيّةِ وَ مَهَارَتِه بِالتّصْوِير. وَثّقَ الجَزِيلَ وَ الثّمِينَ مِنَ الَمعلُومَاتِ وَ الحَقَائِقِ الاستِكْشَافِيّة وَ التّارِيخِيّة فِي مدَوّنَات سَتَظَلّ مَرجعَاً أَسَاسِيّاً عَلَى مَرّ الأَزمِنَة. عَلَاوَةً عَلَى ذَلِك، لَمْ يَبْخلْ جَدّي عَبْدالله فِلْبِي بِحِكْمَتِهِ أَنْ يُثْرِي عِدّة مَجَالَاتٍ أُخرَى، مِنْهَا السّيَاسِيّة وَ البَرّيّة وَ بِلَا شَك العَائِلِيّة. كَانَ رَحمَةُ الله عَلَيهِ دَقِيقَاً وَ مُلِمّاً بِالتّفَاصِيلِ، وَاثِقَاً بِنَفسِهِ وَ مِنْ قَبْلِهَا بِالله العَزِيزِ الجَلِيل، الذِي انتَقَلَ إِلَى جِوَارِهِ فِي العَام 1960 م وَ دُفِنَ فِي مَقَابِرِ المُسلِمِين فِي العَاصِمَةِ اللبنَانِيّةِ بَيْرُوت. اخْتَارَ عَبْدالله فِلْبِي أَنْ يَسْرِي بِفُضُولِهِ نَحوَ المَسَارِ السّوِيّ السّلِيمِ، نَحوَ مَسَارِ الاسْتِكْشَافِ وَ العِلْمِ وَ المَعرِفَة، حَتّى غَدَت وَ بَقَت مَسِيْرَتهُ عَظِيمَة وَ سِيرَتَهُ عَطِرَة.

كَحَفِيدَتِهِ، أَرَاهُ الأَبَ وَ القدوَةَ وَ الصّدِيْقَ، أُبصِرُهُ مِنْ حَوْلِي وَ مِنْ خِلَالِي كَمَا لَمْ أُبْصِرْ أَحَدَاً مِنْ قَبل.

أَيّ لُغَةٍ سَتُسْعِفُنِي الآنَ لِأُفَسّرَ مَا مَعنَى أَسْمَى رَفِيْق؟ أَنَا مِنْهُ، وَ هُوَ كُلّي. .

حَقِيْقَةُ عَلَاقَتِي بِهِ لَا يَعلَمُ بِهَا سِوَى رَبّ القُلُوْب، وَ مَا يَدُورُ فِي خَاطِرِي نَحوَهُ لَا يُدرِكُهُ سِوَى عَلّامُ الغُيُوْب. عَبدالله فِلْبِي فِي رِحلَتِي وَ ذَاكِرَتِي هُوَ كَمَا أَطلَقَ عَلَى ابنَيْهِ، خَالِدٌ وَ فَارِسٌ.

خِتَامَاً وَ يَقِينَاً، إِنّ أَغلَى مَا أَكْرَمَ الله بِهِ جَدّي عَبْدالله فِلْبِي - رَحِمَهُ الله - وَ أَقْيَمُ مَا وَرّثَهُ هُوَ لَنَا هُوَ الإِسْلَام، وَ مِنَ البَدِيهَيّ أَنْ أَقِفَ عَاجِزَةً عَنِ التّعبِيرِ، وَ أَنْ تَخُونَنِي أَفْصَحُ المُفرَدَاتِ إِذَا مَا أَرَدتُ الاسْتِرسَالَ فِي وَصفِ المَشَاعِرِ النّابِعَةِ مِنْ هَذِهِ الفِكْرَة، فَسَأَكْتَفِي بِدُعَاءِ القَدِيرِ اللّطِيفِ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي مِيزَانِ حَسَنَاتِ جَدّي عَبْدالله فِلْبِي وَ أَنْ يعِزّ بِهَا شَأْنَهُ يَوْمَ يُبْعَثُوْن.