اطّلعت على مقال لأحد زملائنا الكتاب ينتقد فكرة تشومسكي في فطرية اللغة من حيث أصلها الفلسفي.

وأقول جميل إثارة النقاش حول هذه المواضيع الفكرية والعلمية. وليس هناك مشكلة أن يكون تشومسكي أخذ عن العرب أو عن اليونان، لكنها في النهاية هي أفكار وليست أساطير! اليونان ومن قبلهم ومن بعدهم ناقشوا أكثر الأفكار التي ما زالت حية حتى الآن وكما يقولون: الأول ما ترك للتالي شيئا...

المهم في هذا العصر وحسب المنهج العلمي الحديث هو صياغة الفكرة بشكل علمي وإثباتها تجريبيا إن أمكن.

مثلا في علم الكيمياء فكرة الذرات كانت موجودة عند الهنود واليونان القدماء وكانت الفكرة العامة أن المادة منفصلة. جاء أرسطو وقال إن المادة متصلة وليست مكونة من ذرات. وصارت هي الفكرة السائدة من بعده على مدى ألفي سنة.

ثم في العصر الحديث جاء دالتون وطمسون وقالوا إن المادة منفصلة ومكونة من ذرات وأثبتوا ذلك علميا.

مسألة الفطرية ووجود القبليات العقلية بشكل عام وبغض النظر عن (مثل أفلاطون) هي من المسائل الفكرية العميقة وليست من الأساطير. وقد أثبتها علماء المسلمين ومنهم ابن تيمية في مناقشة مسائل التحسين والتقبيح واستدلوا لها، وهي من المفاهيم الشرعية المعروفة بصيغتها العامة.

جانب اللغة الداخلي في تاريخنا غير محسوم وأغلب اللغويين انشغلوا بمحتوى اللغة الظاهر (السماع) عن مناقشة ما وراء ذلك من آليات عقلية داخلية. وغالبا يشيرون للملكة فقط ثم لا يتبعون ذلك بشيء آخر.

أما الغربيون في لسانياتهم العصرية فكانوا أبعد من ذلك بمنهجهم المادي السلوكي الذي ينكر كل ما هو داخلي أو فطري أو فكرة الصفحة البيضاء.

فاللسانيات الغربية المعاصرة قامت على المنهج السلوكي المادي البحت أي اعتبار المظهر الفيزيائي الاختزالي الظاهر للغة. وهذا المنهج الضيق في النهاية يؤدي وأدى فعلا إلى طريق مسدود، لأن اللغة قبل ذلك هي قضية عقلية كلية معرفية. والواعد في الحقيقة هو منهج تشومسكي في إعادة الأولوية للعقل والكل في شأن اللغة.

لو أن الطفل كانت عنده هذه القدرة الحسية فقط التي يقول بها (لوك) أو بشكل عام فكرة (الصفحة البيضاء) لصار مثل الببغاء يردد فقط الكلمات التي يسمعها من البيئة أو حتى الجمل كما هي ولا يزيد عليها. ولا يخدعنا أن اللغة تحتاج إلى تعلم حسي خارجي (سماع) فكل السلوك يحتاج إلى تحريك ومثير خارجي.

الطفل عنده قدرة داخلية عقلية عجيبة قادرة على الصياغة الكلية للجمل وقبل ذلك استنتاج النحو الكلي للغة من غير جهد أو تعليم مباشر. وللتوضيح يمكن مقارنة تعلم اللغة الثانية ألفاظها ونحوها عند الكبار بتعلم الأطفال لغة الأم والفارق الكبير في ذلك. وللتوضيح أكثر يمكننا أن نقارن تعلم اللغة المنطوقة بتعلم (القراءة والكتابة)، عندها نعرف الفرق بين الفطري التلقائي وبين غير الفطري الذي يحتاج الكثير من الجهد والمال لإكسابه الأطفال.

ما فعله تشومسكي هو أنه صاغ الفكرة بشكل علمي وحولها إلى علم قابل للإثبات والنفي. ولا يعيب تشومسكي أنه أخذ عن الفلسفة القديمة أو الحديثة فعلم الرياضيات وعلم الفيزياء كانت ضمن الفلسفة قديما بل أغلب العلوم كانت كذلك. وأبعد من ذلك وأغرب هو أن علم الفلك خرج من رحم التنجيم! وأن علم الكيمياء خرج من رحم السحر والشعوذة! يقال إن الساعة العطلانة تصيب الوقت الصحيح مرتين باليوم والشيطان صدق وهو كذوب والحي يخرج من الميت.

وبتطبيق المنهج العلمي الحديث تم فصل هذه العلوم القائمة عن الفلسفة وغيرها. عموما الفكرة هي غربلة موروث الأمم وفئات المجتمع واستخراج العلم من معدنه أما الرفض المسبق لكل جديد وغريب فهو سهل ولكنه غير منتج.

عموما ما زال عمل تشومسكي في منتصف الطريق ولم يكتمل بعد لكنه على كل حال رسم الخطوط العريضة لهذا الجانب المهمل من أمر اللغة. وأهم منه دور اللغة في بناء العقل والمنطق عند الإنسان.