لا شك أن النموذج الفكري الغربي في وقتنا الحاضر هو النموذج المُهيمن على المستوى العالمي، صحيح أنه منتج غربي، إلا أنَّ الكثير من أبناء الثقافات والمجتمعات الأخرى من شتى أصقاع العالم تلقوا هذا النموذج الفلسفي المادي واعتنقوه، بل إنَّ منهم من كان أكثر إخلاصًا له من الغربيين أنفسهم، ولمعرفة كيف يعمل هذا النموذج الفكري الـمُسيطر على مفاصل حياتنا المعاصرة، يلزم الغوص في أعماقه وتفكيكه؛ لأجل معرفة تمظهراته والسياقات التي عُمل بها، ومحاولة القبض على النمط الذي يفسره هذا النموذج؛ وذلك من أجل رسم خريطة طريق تنبؤية بمآلات الأمور التي قد تُـفضي إليها هذه المدرسة الفكرية مستقبلاً.

في البدء يجب اكتشاف طبيعة النزعة الفلسفية الغربية، حيث يوضح الكاتب المغربي الطيب بوعزة في كتابه: «في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة»، أنَّ هذه الفلسفة مرتبطة دائمًا بحقيقة وعي الإنسان الغربي حول مسألة الوجود، إذ في البدء كان نمط الإدراك المعرفي هو التقليد الفلسفي المعمول به مع الأفلاطونية والأرسطية، ثم ارتحل جهازهم المفاهيمي المؤسس للنظر إلى الوجود إلى نمط آخر وهو نمط العلاقة الحيازية، حيث ولد ذلك مع ديكارت وفرنسيس بيكون، فمقولة الكوجيتو لديكارت: (أنا أفكر أنا موجود) لها حقيقةٌ أخرى في وجهة نظر فرنسيس بيكون وهي: (أنا أفكر أنا موجود، إذن أنا أقدر)، وهو ما يفسر تحول إدراك الفكر الغربي لمسألة الوجود من مجرد محاولة إشباع معرفي إلى نشاط يهدف إلى ضبط قوانين الوجود لغرض السيطرة عليه، بواسطة المنظومة التقنية التي أوجدها العقل البشري.

عندما وضع ديكارت العقل كمرجعية معرفية بوصفه قادرًا على بلوغ الحقيقة بمفرده وبمعزل عن أي سند ما ورائي، فإنّه أرسى لأوروبا عقيدة جديدة؛ تم فيها رفعة العقل إلى المقام المطلق؛ ليكون هذا أبرز ما يميز حقبة الحداثة، وعندها اشتعلت جذوة الإلحاد ومحاربة الأديان بوصفها ترمز إلى التخلف والرجعية التي تحجب التنوير الفكري، ولكن سرعان ما بدأ النقد المعرفي (الإبستيمولوجي) يشكك في قدرة هذا العقل وإمكاناته المعرفية، خاصةً في النموذج الشكي الذي قام به ديفيد هيوم، ثم أطلق كانط في كتابه: (نقد العقل المحض) مشروعًا إبستيمولوجيًاً أكثر عمقًا؛ حيث جرّد العقل من إمكانية المعرفة المطلقة، وهو ما يشكل نقدًا جذريًا للوعي الفلسفي الحداثي، لكي تكون طبيعة نزعة الفلسفات الغربية في حقبة ما بعد الحداثة تتلخص في ربط الوجود بالالتذاذ أو البحث عن اللذة (اللوغوس)، وبدأت المجتمعات التي تتبع هذا النموذج المادي من خلال الغوص يومًا بعد يوم في المادية، والبحث عن اللذة بكل تمظهراتها دون أي اعتبارات أخرى.

أما على صعيد الأخلاق، فإنَّ الأخلاق الأساسية ذات المنبع الديني لا تشيخ ولا تهرم، ولكن عندما انفلت التقدم التقني من عقال الأخلاق أُصيب بالتقادم، لذا تعمل التقدمية المادية الغربية على التقدم ليس لغرض المصلحة بل التقدم من أجل التقدم لكي لا تفقد شبابها، نرى ذلك جليًا عندما عملت المنظومة الغربية الإلحادية على تحييد الدين من حساباتها الأخلاقية، وإعادة ربط الأخلاق بالعقل البشري، لكي تقع في معضلة السيولة الفكرية للعقل، فأفكار الإنسان تتكيف حسب رتم الحياة العصرية المتغيرة، وبالتالي تتغير منظومة الأخلاق بتغير المبادئ الحاكمة للمرجعية العقلية، وهذا الأمر لا يحدث مع المرجعيات المتجاوزة للعقل الإنساني؛ لأن الدين يتجاوز الإنسان، ويتدفق من نصوص مقدسة تتميز بقدر عالٍ من الثبات والصلابة، ولا تتأثر بعامل الزمن، وعليه انزلقت الأخلاق والقيم في المجتمعات التي تنتهج الفكر الغربي في مُنزلقٍ أخلاقي، تزداد حدة انحداره مع زيادة إيقاع الحياة المعاصرة، وتزداد معه تعاسة البشرية اللاهثة خلف المادية واللذة، ويتحول الإنسان فيها لكائنٍ مادي نفعي فرداني عدمي استهلاكي، أو ما يسميه البروفيسور عبدالله البريدي بالإنسان الدولاري.

يقول فريدريك نيتشه قبل أكثر من مائة عام في كتابه «أصل الأخلاق وفصلها»: إنه كلما زاد ارتباط الإنسان بالإيمان بقدراته العقلية كلما ابتعد عن الدين، وبغياب الدين تغيب الراحة النفسية، ويصبح كل شيء لا قيمة له، ويدخل الإنسان المؤمن بالعقل والكافر بالدين في مرحلة التشاؤم ومنها إلى العدمية، وفي تلك اللحظة سوف يموت الإله لدى الإنسان. وعليه فهذا لا يعني أن نيتشه ينادي بالأخلاق المرتبطة بالدين، بل يضع نفسه في موقف الناقد الأخلاقي، لذا فمعضلة الأخلاق عند نيتشه تتجاوز مسألة الخير والشر، حيث يرى استبدال الأبدية الخالدة لإله خارق للطبيعة (الإله الذي يدعو للخير ويحارب الشر)، بأبدية القوى الخلاّقة التي لدى الإنسان (السوبرمان) والقادرة على إعادة تعريف الخير والشر، وتمتلك كذلك القدرة على تدمير الطبيعة وإصلاحها، وبالتالي عندما يمتلك الإنسان تلك القوى التي عند الخالق يحل الخالق في الإنسان ويصبح الإنسان يعبد نفسه.

أما على الصعيد العملي والحركي، تعد الثورة الفرنسية بمثابة الانتقال من مرحلة التنظير إلى مرحلة التنفيذ، لقد تحولت مبادئ الثورة الفرنسية الثلاثة: «الحرية والمساواة والإخاء» إلى ما يشبه أركان الدين لدى اللادينيين والملحدين، وعملت المنظومة الفكرية الغربية على الغلو لحد التطرف في هذه المبادئ، فعلى سبيل المثال: ارتحلت المساواة من كونها حالةً من حالات العدالة لكي تتبلور ضمن تيار فلسفي يرى عدم وجود فروق بين الجنسين، ويعمل على ألا تكون هناك فروق بين الإنسان والحيوان أو بين الإنسان والآلة مستقبلاً، هذا التطرف الفكري الغربي ينزع قداسة الإنسان، ويعتبره مجرد مادة مثلها مثل أي مادة أخرى، حيث يمكن التحكم بها ضمن سعيهم الحثيث إلى التحكم بالوجود المنبثق من النزعة الفلسفية الغربية الحداثية.

إنَّ هذا الطرح الإلحادي الذي يعيد كل شيء إلى المادة، ويختزل الإنسان في حدود الكيمياء والأحياء، يرى أن التقنية الحديثة ممثلةً في ثورة الهندسة الوراثية والذكاء الاصطناعي قادرة على تغيير الإنسان عبر تولد أعضاء لا تفشل ولا تهرم، وعبر إنترنت الأشياء تصبح هذه المادة الآدمية قادرة على الاتصال بالعالم والتفاعل معه، وبالتالي يصبح هذا الكائن خالدًا وخارقًا يعيش في هذا الكون ولا يشقى، لذا يرى يوفال نوح هراري - ملحد من أصول يهودية - أنَّ الإنسان سوف يتحول من كونه الإنسان العاقل «هومو سابينس» إلى الإنسان الإله «هومو ديوس»، وهو طرح يتوافق مع طرح نيتشه عن الإنسان السوبرمان، وهو إنسان عدمي فرداني لا يحتاج للآخر، ولا يكترث به، أو كما يقول سارتر أحد رواد الفلسفة الوجودية: «الجحيم هو الآخرون».

لذلك فمنبع الخطورة يكمن في كون الفردانية بالمجتمعات ذات الفكر الغربي تعمل على الكفر بسلطة الأخلاق، حيث يرى ماكس شتيرنر – فيلسوف ألماني – أن الاستبداد من طبيعة أي سلطة (الدولة، الدين، الأخلاق، المجتمع،...)، لذا يدعو إلى الكفر بالسلطة مهما كان نوعها، حيث يسمي السلطة بـ(شپوك) أو الشبح باللغة الألمانية؛ لأن الناس تخاف من مخالفة السلطة سواءً أكانت سلطة الدين أو الأخلاق، رغم أنها سلطة لا ترى بالعين، وهذا يُمهد لكارثة حقيقية تواجه البشرية؛ في ظل انتشار التقنية، وغياب الوازع الأخلاقي.

عندما دارت عجلة الثورة الصناعية، وحلت المكائن محل قوى العمال، أصبح الكثير منهم ضحية البطالة والوقود الذي أشعل الثورات العمالية الشيوعية، والسؤال ماذا سوف يحدث للبشرية عندما تعمل المنظومة الفكرية المادية بلا كللٍ ولا مللٍ على أن يخلق الإنسان الإله؟ ماذا سوف يحدث للإنسان القديم غير المؤهل للتحول والترقي؟، ماذا سوف يحدث للجموع المهولة والمغلوبة على أمرها التي تعد بلا فائدة وظيفية بالنظام المادي الجديد؟.

وفي السياق ذاته، فإنَّ المخيف أن العقل المادي يقبل إزالة المواد غير المفيدة إذا كانت الإزالة والاستبدال أقل تكلفةً من الإصلاح، وفي ظل غياب سلطة أخلاق حقيقية، فإنَّ سيناريو الترشيد النازي يلوح في الأفق، لقد أحرقت النازية ما كانت تُسميهم بالأفواه غير المنتجة من يهود وسلاف وغجر، ضمن عملياتها المادية المجردة من أي قيم أخلاقية، وهذا ما قد يفعلهُ الإنسان الإله اللقيط، ويعمل على القضاء على الإنسان العاقل في محارق جديدة، ولكنها سوف تكون مختلفة ومبتكرة هذه المرة، قد لا تأخذ شكل محارق الرايخ الثالث سيئة السمعة، وقد تدار ضمن مخططات عالية الخبث والدهاء أعدّتها منظومة الذكاء الاصطناعي فائقة القدرات، أم سوف يكون هناك بيانُ جديد ينادي المنبوذين من جنس البشر في أرجاء العالم بالاتحاد لمواجهة الطغيان الرأسمالي في حلته الجديدة.