شعرت بشيء من السعادة وأنا أتابع فعاليات مركز إثراء في المنطقة الشرقية، واهبًا البهجة لعشاق الثقافة ومحبي القراءة والأدب بحضور عدد من رموزها في العالم العربي، وهي سعادة غطت نوعًا ما على خيبة أمل عندي شعرت بها بعد أن قررت وزارة الثقافة التوقف عن دعم ميزانيات الأندية الأدبية ونقل هذه المسؤولية لمركز دعم القطاع غير الربحي، كالجمعيات الأهلية والخيرية.

وتمنيت ونحن في هذه الدولة الغنية بتاريخها وقادتها ونفطها أن تجد (الثقافة) و(المثقفين) والأدب والأدباء المستفيدين من نشاط هذه الأندية دعمًا يليق بتاريخها وحركة النشر والأدب فيها ومنجزاتها، وحضورها على مستوى القضايا الاجتماعية والوطنية والأحداث السياسية، ودورها في توجيه الرأي العام الوطني طوال عقود.

وثمار هذه الأرض المباركة تاريخ وإنسان وموقع، وقبلةً للمسلمين يانعةٌ وغنية بقصص العطاء على امتداد تلك السنوات وارفة الضلال، ولا يمكن لثروة النفط وحدها أن تصنع هذا التاريخ وهذه الأمجاد، لكن القادة سخروا هذه الهبة من الله لتعلو هذه المملكة وتسمو، وينتشر فيها وعبرها الخير والنهضة والتقدم والثقافة والعلم عبر أجيال متلاحقة واعية.

وليصبح الإنسان فعلاً في بلدنا ركيزة التطور مواكبًا للحاضر ومتطلعًا بشغف نحو المستقبل ممثلاً حقيقيًا للثروة بمعناها المعنوي، بل إن هذا الخير والنفط كان مصدر تطور وسعادة في كل البلاد التي مدت يدها تصافح وتعلن صداقتها مع بلادنا، فمدت لها السعودية لها يدًا من عطاء، وشكلت في تاريخ العروبة والإسلام سيرة مجد وكرم ومازالت وستظل.

لقد كان النفط وسيلةً سحرية سهلت وسرعت نمو العقول والأفكار وطريقة التفكير قبل أن تكون الداعم الأول لبناء المدن والمشاريع الكبرى والأبراج، وبالطبع مثل ما نجحنا في استغلاله للرقي والتقدم، فشل غيرنا في أماكن أخرى رغم ما لديهم!

فلماذا لا نحلم أن يتم تسييل هذا الكنز في قنوات الثقافة، وتتولى وزارة الطاقة وعبر ذراعها القوي (أرامكو) مهمة هذا الدعم، خاصةً وأن تجربتها في مركز (إثراء) تشجع على ذلك، وعندها تتحول هذه الأندية إلى مراكز إثراء في مناطق المملكة كلها، وتسعى إلى دعم اقتصاد المعرفة على كافة الأصعدة الثقافية والمعرفية من خلال الانفتاح على مختلف ثقافات العالم، وإحداث تأثير إيجابي ملموس في مسيرة التطور البشري عن طريق إذكاء الشغف بالمعرفة والإبداع والتواصل الحضاري والثقافي مع العالم.

ومن محاسن الصدف التاريخية أن أول اجتماع أقر فيه مقترح تشكيل أول ستة أندية أدبية في المملكة كان في قاعة وزارة البترول والمعادن عام 1395هـ في شارع المطار بالرياض بحضور الأمير فيصل بن فهد، الرئيس العام لرعاية الشباب.

يقول الطبيب الوزير والأديب السفير البحريني السابق علي فخرو في مقال قديم له: «إن على بلدان العرب النفطية، وبالأخص الخليجية، والتي ترفل في نعيم ثروة بترولية هائلة، أن تعمل لتتحوّّل ثروتها المادية إلى ثروة ثقافية تسمو بإنسانها، ونشر الثقافة الرفيعة بين المواطنين، والصًّرف بسخاء لترسيخ ممارسة الثقافة الرفيعة من قبل الشباب، حتى لا يكتفي بثقافة المشاهدة في شكل مهرجانات ثقافية وسينمائية وغنائية ومسرحية يقدمها الفنانون الممارسون واختصاصيو الثقافة، إذ المطلوب هو ثقافة الممارسة، وهذه تحتاج أن تكون في شكل مراكز ثقافية يمارس فيها الشباب بأنفسهم، وبالطبع بدعم فني ومالي من قبل الدولة والمجتمع، أنشطة مثل التمثيل والرسم والنحت والموسيقى والغناء والنقاشات والقراءات الأدبية والفكرية وغيرها».

وقد كانت وزارة البترول، وهو المسمى الذي تحول للطاقة، ولادةً منذ عقود بالأفكار الناجحة على أيدي وزراء مثقفين مستنيرين يخطف بريق عملهم وثقافتهم الأضواء بدايةً بعهد الوزير الذي سبق عصره، عبدالله بن حمود الطريقي، تقرأ في سيرته أثر العلم والثقافة وإدارة النفط وصنع الأجيال الواعية التي تحافظ على مصالح بلدها مهما كان.

ولن يصعب عليك أن تكتشف من سير الدكتور أحمد يماني، والدكتور هشام ناظر والمهندس علي النعيمي، وصولاً للمهندس خالد الفالح، والأمير المثقف عبدالعزيز بن سلمان، كيف سار النفط جنبًا إلى جنب مع السياسة والثقافة وحسن الإدارة، وما أحدثته أرامكو من تغيير إيجابي في سلوك موظفيها والإبداع في إدارة مشروعاتها وبرامجها المجتمعية، ومبادراتها الصحفية والإعلامية والثقافية.

وما تفعله في (إثراء) الآن شاهد على فرادة إدارة الثقافة وتحرير الوعي وتثقيف الأجيال.

وبإمكاننا أن نحلم بدعمٍ ماديٍ غير مسبوق لقطاع الثقافة عبر دعم هذه الأندية الأدبية وغيرها من هيئات الأدب ونتخيل ورش عمل وملتقيات تتبناها الشركة الأغنى في العالم عبر إستراتيجية متميزة يتم خلقها لتطوير هذه الأندية وتنمية مهارات العاملين فيها، وصنع برامج جديدة وآليات مبتكرة تشجّع على الإنتاج الأدبي، وتوجّه المواهب، وتحتفي بالرموز، وتحافظ على النخبة، وتعتني بكنوز الأدباء الأوائل، وتوثق تاريخ الثقافة والأدب؛ مستلهمةً من رؤية السعودية الجديدة نجاحاتها في صنع مجتمع حيوي مثقف،صانعٍ للمعرفة ومشاركًا في اقتصاد مزدهر لوطن طموح وبلد غني بالنفط والرجال والجمال والأدب والفن والشعر والرواية والمسرح.

ولن تعجز وزارة الثقافة بهيائتها المتعددة أن تكون حينها سندًا وشريكًا في النجاح الذي نحلم به لتسير الثقافة والطاقة جنبًا إلى جنب وثروة النفط مع ثورة الأدب!

ما أجمل الحلم والخيال، وسنظل نحلم ونأمل، فليس لأحلامنا في هذا العهد سقف ولا لطموح مثقفينا حدود.