خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان لعبادته ثم ليكون خير مستخلفٍ في الأرض، وذلك بعمارتها بالخير وبما يحقق توفير الحياة الكريمة للأفراد والمجتمعات، ولا يمكن لذلك أن يتأتى إلا من خلال زيادة مستوى الوعي البيئي وحفظ الموارد الطبيعية واستثمارها.

وتعد التنمية المستدامة اليوم من أهم القضايا التي تشغل العالم لما لها من أهمية في تحقيق التنمية المتكاملة التي تقوم على الموازنة بين أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، من خلال توفير مقومات الحياة سواءً في الحاضر أو المستقبل، وتوجيه الممارسات الإنسانية نحو كيفية الاستهلاك الحضاري للموارد الطبيعية من خلال ما يعرف بالاقتصاد الأخضر.

إن الاقتصاد الأخضر يعد من الموضوعات المهمة على كافة الأصعدة المحلية أو الإقليمية أو الدولية، ومن أبرز أسباب أهمية هذا الموضوع هو الظرف البيئي الذي يشهده العالم اليوم، مما أدى إلى ظهور موضوعات أخرى كارتفاع نسبة الكربون ومعدل التغير المناخي والاحتباس الحراري وغيرها، ثم ارتباطه ارتباطاً وثيقا بتحقيق التنمية المستدامة (زعزوع،2017).

‏ والاقتصاد الأخضر يعرفه شاكري بأنه «الاقتصاد الذي يهدف إلى تحسين حياة الإنسان وتحقيق العدالة الاجتماعية والحد من المخاطر البيئية وعدم استنزاف الموارد الطبيعية لضمان حقوق الأجيال القادمة محققاً بذلك الترابط بين البعد الاقتصادي والاجتماعي والبيئي».

كما وأن الاقتصاد الأخضر يعد أحد أهم الموضوعات التي تطرح للنقاش في المملكة العربية السعودية من خلال الرؤية الوطنية 2030، التي تقوم على مجموعة من البنود والمعايير، ومن ضمنها حماية البيئة واستثمار الموارد الطبيعية والتنوع الاقتصادي تلبية لمبادئ التنمية المستدامة وتحقيقاً لأهدافها.

لذا يمكن القول: إن الاقتصاد الأخضر والتنمية المستدامة للموارد الطبيعية وجهان لعملة واحدة، ولتحقيق مبدأ الاقتصاد الأخضر لا بد من وضع النقاط التي من شأنها قياس أثرها الواقعي من خلال المشاريع التي يتم من خلالها الاستفادة من الموارد الطبيعية المتجددة، واستثمارها في المواقف الحقيقية، والتوقف عن استنزاف رأس المال الطبيعي بغية الوصول إلى تحقيق أهداف الاقتصاد الأخضر.

‏ ويعد النخيل من الموارد الاقتصادية المهمة في المملكة العربية السعودية كونه منتجاً وطنياً مرتبطاً بثقافة وتاريخ السعودية، وتمثل النخلة الرمز الوطني للشعار الرسمي لها وعلامة تجارية لمنتجاتها، كما يعد مصدراً من مصادر التغذية والصناعات الأخرى كالمنتجات الطبية والتجميلية وغيرها.

‏وفي السنوات الأخيرة ازدادت أعداد النخيل في المملكة العربية السعودية لتنتج أكثر من مليون ونصف المليون طن من التمور كل عام، لكن لماذا لا نسلط الضوء على ما تخلفه النخلة من مخلفات مهدرة، فالنخلة يؤخذ منها سنوياً ما يقارب 20 سعفة كنفايات يتم التخلص منها لنظافة المزارع فقط، ناهيك عن الاستخدام السلبي لهذه المخلفات بحرقها أو رميها في مكبات النفايات!

إذاً: ماذا لو تم جمع هذا الكم الهائل من أطنان مخلفات النخيل المتمثلة في سعف وعراجين النخيل والتمور الجافة غير المستهلكة، مع ما يلزم من مواد غذائية أساسية كالنخالة والقمح والذرة والشعير، وغيرها من المواد التي من شأنها رفع جودة المنتج، وتحويل تلك المكونات من خلال مصانع متخصصة قائمة على منهجية علمية دقيقة إلى أعلاف حيوانية عضوية غير تقليدية، بما يساهم في التقليل من هدر وسوء استخدام هذه المخلفات، وتنمية قطاع الثروة الحيوانية بما يحقق مبدأ التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية على حد سواء، بالإضافة إلى توفير فرص عمل جديدة والمساهمة في الحد من ارتفاع أسعار الأعلاف التي أدى ارتفاعها في السنوات الأخيرة إلى ارتفاع أسعار المواشي والألبان، فعلى سبيل الذكر مع مطلع هذا العام 2023م رفع بعض شركات الألبان الأسعار بناءً على ارتفاع أسعار الأعلاف.

فالبحث عن مكونات الأعلاف الأقل كلفة وبجودة عالية أصبح لزاماً وخاصة مع توجه الرؤية الوطنية 2030 ثم من خلال إستراتيجية تطوير منطقة عسير التي تهدف لتحقيق نهضة تنموية شاملة وغير مسبوقة للمنطقة، ولضمان إيجاد تنويع في مصادر الدخل وجذب الاستثمار وإيجاد المزيد من الفرص الوظيفية والمحافظة على البيئة وتنمية القطاع الخاص وزيادة الناتج المحلي ودمج الاقتصاد السعودي في المنظومة الإقليمية والعالمية، وتنمية الصادرات غير النفطية بما يضمن السعي في تحقيق أهداف رؤية المملكة والتنمية المستدامة.

لذا كان من الضرورة الملحة اليوم أن ننتقي أفضل الإستراتيجيات لاستثمار هذه الموارد لزيادة جودة الحياة بشكل عام، وتنمية الاقتصاد الأخضر والشراكة المجتمعية بشكل خاص.

‏إن الهدف من هذا المقال الوصول لحلول حقيقية من خلال إنشاء مصنع في المنطقة الجنوبية لتصنيع أعلاف غير تقليدية وبجودة عالية من مخلفات النخيل بتكلفة تنافسية وإستراتيجية محكمة، لتحويل هذه المخلفات إلى منتجات تستخدم في تعليف المواشي كقيمة مضافة في القطاع الزراعي، إذ يعد أحد أهم القطاعات الواعدة لتحقيق التنمية المستدامة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وليس الهدف من إنتاج الأعلاف المحلية غير التقليدية تحقيق الاكتفاء الذاتي فحسب بل تقليل الاعتماد على الاستيراد الخارجي أيضاً.

كما أن هذا المشروع يتيح الاهتمام برعاية أكثر للنخيل ورفع مستوى الثقافة البيئية لدى المزارعين، وزيادة الدخل، وتوفير الوظائف والمساهمة في تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية.

يقوم هذا المشروع على تقييم الأعلاف الحالية ودراسة أثرها من خلال التجارب ودراسة الكفاءات لها، سواء في عمليات الهضم أو التسمين أو إدرار الحليب أو التكاثر أو في القيمة الغذائية والصحية للمواشي، وزيادة مستوى الوعي البيئي لمزارعي النخيل في كيفية التعامل مع مخلفات النخيل بالطرق المثالية والحضارية لتوفير أعلاف بديلة وغير تقليدية بأسعار تنافسية وبشكل مستدام و ذي قيمة غذائية عالية.

وفكرة إنشاء مشروع إعادة تدوير مخلفات النخيل ليست وليدة اليوم فوفقاً لعدد من التقارير العالمية بلغت قيمة سوق إعادة تدوير سعف النخيل العالمي أكثر من 53 مليار دولار أمريكي في عام 2019 ومن المتوقع أن تصل لأكثر من 95 مليار في عام 2025، وهناك عدة دراسات مشابهة لمثل هذا المشروع في عدد من الدول العربية والخليجية.

والحديث عن الاستثمار من تدوير مخلفات النخيل يطول، ولكن أتى هذا المقال لتوجيه الجهود للاهتمام بعمق وبشكل منهجي علمي دقيق تجاه هذا المورد الطبيعي، فالمنطقة الجنوبية من المملكة العربية السعودية بحاجة ماسة لمثل هذه المشاريع الواعدة، لما حباها الله من الموارد الطبيعية المتجددة، وكونها ذات طبيعة زراعية وتحتضن العديد من المحافظات التي تشتهر بزراعة النخيل، فالأبحاث التي طرقت مثل هذه الموضوعات متعددة ولكن لا زالت دون المستوى المأمول.

لذا يجب دعم هذه الأفكار وتطبيقها بشكل علمي كمشاريع على أرض الواقع، من خلال الحكومة والجهات المتخصصة ذات العلاقة، بغية الوصول إلى أفضل النتائج الممكنة بإذن الله تعالى.