«في السنوات الأخيرة، ارتفع عدد القضايا والشكاوى الطبية، فقد ارتفعت عدد القضايا على الهيئات الشرعية في السنوات العشر الأخيرة من 6800 قضية إلى 18 ألف قضية. والتي يُفترض أن يكون هدفها تحسين جودة الخدمة الصحية المقدمة من خلال ردع كل من يقصّر في تقديمها. وقد جاءت الشريعة الإسلامية بالضروريات الخمس، والتي من بينها حفظ النفس، ولا شك في أن كل ذي لب سيسعى جهده إلى حفظ هذه النفس مما يحيط بها من أضرار محتملة. وقد فتحت الدولة رعاها الله الأبواب لكل من تضرر من أي ممارسة طبية لتقديم الشكاوى والتظلمات أمام اللجان والجهات القضائية.

مما لا شك فيه أن القضاء الطبي والخوف من الملاحقة القانونية يردع كل من تسول له نفسه العبث بحرمة النفس، سواء كان ذلك بالتعمد أو عن طريق الإهمال، ولكن لا يخفى على أي عاقل أن الإسراف في أي شيء قد يؤدي إلى ضرر يتجاوز منفعته.

فهل أدت سهولة التقاضي الطبي وارتفاع عدد الشكاوى إلى تحسين جودة الخدمة الصحية؟ أم أنها أدت إلى العكس؟


من المؤسف أن ارتفاع عدد الشكاوى الطبية دفع بعض الممارسين الصحيين إلى ممارسة ما يُعرف بـالطب الدفاعي. وهو تغليب الممارس الصحي مصلحته الشخصية - وهي هنا الابتعاد عن أي ما قد يعرضه للشكاوى - على مصلحة المريض.

أشكال الطب الدفاعي:

يتخذ الطب الدفاعي عادةً أحد شكلين:

1- الإسراف في الإجراءات الطبية: مثل إجراء تحاليل وفحوصات لا داعي لها.

2- تجنب علاج المريض: خصوصًا في الحالات الصعبة والخطرة، حيث قد يرفض الممارس الصحي الحالة (إن استطاع ذلك) أو يحوّلها إلى ممارس صحي آخر، رغم قدرته على علاجها.

3- تجنب الإجراء الطبي الأمثل للمريض خوفًا من المضاعفات.

أسباب الطب الدفاعي:

من أسباب لجوء بعض الممارسين الصحيين إلى الطب الدفاعي:

• الخوف من طول الإجراءات القانونية.

• الضغط النفسي المصاحب للشكاوى الطبية.

• عدم مساندة المنشآت الصحية للممارس.

• المبالغة في التعويضات المادية التي قد تتجاوز حدود الديات الشرعية.

كل هذه الأسباب قد تدفع بعض الممارسين الصحيين، تحت وطأة الخوف من الملاحقة القانونية، إلى تقديم سلامته ومصلحته الشخصية فوق مصلحة المريض.

مساوئ الطب الدفاعي:

انتشار الطب الدفاعي له العديد من السلبيات، منها:

1- تعريض المريض لمخاطر غير ضرورية، وكثرة الفحوصات والإجراءات الطبية قد تزيد من تعرض المريض لمخاطر مثل:

• ارتفاع نسب التعرض للإشعاعات بسبب تكرار الفحوصات التشخيصية.

• الالتهابات والتقرحات نتيجة طول فترة التنويم.

2- إرهاق المنظومة الصحية: ويؤدي ذلك إلى ازدحام المرافق الصحية بكثرة الفحوصات والاستشارات الاحترازية، مما قد يسبب:

• فترات انتظار أطول.

• تأخر الفحوصات الطبية للمرضى الأكثر حاجة.

• ازدحام أقسام الطوارئ والتنويم.

3- تضرر المرضى ذوي الحالات الصعبة، حيث إن المرضى الذين يعانون من أمراض معقدة يحتاجون إلى قرارات شجاعة من ممارسين صحيين يضعون مصلحة المريض قبل خوفهم من الملاحقة القانونية.

4- ارتفاع تكلفة الخدمة الصحية:

في دراسة أجرتها جامعة هارفارد، قدّرت تكلفة الطب الدفاعي في الولايات المتحدة بحوالي 50 مليار دولار سنويًا. دراسة أخرى صادرة عن وزارة الصحة الإيطالية أشارت إلى أن ممارسة الطب الوقائي تشكل أكبر قيمة مهدرة في القطاع الصحي، حيث بلغت نسبة الهدر 0.75% من الناتج المحلي الإيطالي. الأثر على جودة الخدمة الصحية:

يتضح أن انتشار الطب الدفاعي يؤدي إلى خفض جودة الخدمة الصحية ورفع تكلفتها، وهو عكس ما هو مأمول من تسهيل القضاء الطبي وتقديم الشكاوى.

التوازن المطلوب

من الأسباب التي قد تخلق التوازن بين حماية المريض من أي تجاوزات وتعزيز ثقة الممارس الصحي بنفسه:

1- تطوير و إضافة أنظمة داخل المنشآت الصحية التي تمنع أو تقلل من إمكانية حدوث الأخطاء الطبية. هذه الأنظمة أصبحت من المعايير التي تُقاس جودة المنشآت الصحية بها. فمنع الأخطاء الطبية هو عمل مؤسسي يتجاوز مسؤولية الممارسين الصحيين.

2- تعزيز دور اللجان الشرعية في المنشآت الصحية واعتبار قراراتها ممثلةً لقرار المنشأة الصحية نيابةً عن الممارس الصحي. وفي حال ردت اللجنة الطبية في المنشأة شكوى مريض، واختار المريض تصعيدها إلى القضاء، يجب أن يكون التقاضي بين المنشأة والمريض، دون إشراك الممارس الصحي. مما يجعل المنشآت أكثر صرامة في خلق بيئة آمنة للمرضى، ويعزز الثقة بين الممارس الصحي ومنشأته.

3- وضع حد أعلى للتعويضات المادية بحيث لا تتجاوز التعويضات حدود الديات الشرعية، لتقليل الضغط النفسي على الممارسين الصحيين.

الأصل في الممارس الصحي هو الإخلاص والرغبة في مساعدة المرضى، وليس قصد الإضرار أو الإهمال. ولكن الإسراف في الملاحقة القانونية قد يُضر بالمريض وبالمنظومة الصحية بشكل عام.

الحفاظ على التوازن بين حماية المريض وتعزيز ثقة الممارسين هو الأساس لتحسين جودة الرعاية».

طبيب طوارئ