منذ قيام إسرائيل عام 1948 ظل السؤال حول قدرتها على تحقيق استقرار حقيقي ليس فقط على المستوى الأمني ولكن أيضًا على المستويين الاجتماعي والمعنوي مطروحًا. وبالرغم من مرور أكثر من سبعة عقود على وجودها ما زالت إسرائيل تواجه تحديات وجودية تتعلق بموقعها في منطقة مختلفة عنها تمامًا في اللغة والثقافة والأهداف. يحاول هذا المقال تحليل هذه المفارقة من منظور واقعي يعكس المعطيات التاريخية والجيوسياسية الحالية مع التركيز على ظاهرة التطبيع وتداعياتها.

حققت إسرائيل ما يمكن تسميته استقرارًا ظاهريًا بفضل تفوقها العسكري والتكنولوجي والدعم الغربي غير المحدود خصوصًا من الولايات المتحدة. هذا الاستقرار الظاهري مكّنها من بناء دولة حديثة تمتلك اقتصادًا متقدمًا وجيشًا قويًا إلا أن هذا النجاح يأتي بثمن باهظ، إذ يعتمد بالكامل على استمرار حالة التفوق العسكري والسياسي دون أن يصاحبه قبول شعبي حقيقي من المحيط العربي والإسلامي. الإشكالية الأكبر تكمن في أن هذا التفوق يخلق عزلًا ذاتيًا لإسرائيل، فهي دولة محاطة بشعوب تعتبرها كيانًا غريبًا مفروضًا لا يرتبط ثقافيًا أو دينيًا أو حتى إنسانيًا بجغرافيا المنطقة. وبالتالي فإن هذا الاستقرار وإن بدا صلبًا يظل هشًا لأنه مبني على القوة وليس على القبول.

يتطلب التعايش مع المحيط المختلف من إسرائيل إعادة تعريف هويتها الوطنية. إن تمسكها بفكرة "الدولة اليهودية” يشكل عقبة أمام أي اندماج حقيقي مع شعوب المنطقة فالعقيدة السياسية الإسرائيلية الحالية تقوم على التفوق والانفصال لا على التفاعل والتقارب. ومع ذلك فإن التاريخ يثبت أن أي كيان يعيش في عزلة عن محيطه مصيره الفشل مهما طال الزمن. فعلى سبيل المثال شهد التاريخ انهيار إمبراطوريات عريقة مثل الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية العثمانية بسبب انعزالها وتجاهلها للتغيرات في محيطها.


لكن التعايش ليس مهمة سهلة فإسرائيل مطالبة بالتخلي عن سياسات الاحتلال والتمييز التي تمارسها بحق الفلسطينيين وبناء جسور حقيقية مع جيرانها وهذه العملية تتطلب شجاعة سياسية وإرادة حقيقية للسلام وهو أمر لم يظهر بوضوح حتى الآن.

وفي ظل هذه التحديات برزت في السنوات الأخيرة ظاهرة التطبيع مع بعض الدول العربية لكن هذا التطبيع لا يمكن اعتباره حلًا نهائيًا بل هو محاولة لتعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية.

هذا التطبيع هشّ لأنه مرهون بمدى استعداد إسرائيل لتقديم تنازلات حقيقية للفلسطينيين وبناء علاقات تقوم على أساس العدالة والاحترام المتبادل. وأي بادرة سوء نية من إسرائيل قد تؤدي إلى تعليق هذه العلاقات مما يخلق وضعاً صعباً لاسرائيل.

التحديات التي تواجه إسرائيل ليست مقتصرة على المحيط الخارجي فحسب بل تشمل أيضًا تحديات داخلية. الانقسامات السياسية والاجتماعية المتزايدة بين مكونات المجتمع الإسرائيلي، خصوصًا بين العلمانيين والمتدينين، تلقي بظلالها على استقرار الدولة. كما أن الصراع بين الهوية الديمقراطية والهوية الدينية يشكل معضلة وجودية لإسرائيل، إذ يتعارض مع محاولتها تقديم نفسها كدولة حديثة وديمقراطية في آنٍ واحد. هذه التوترات الداخلية قد تشكل عاملًا إضافيًا لزعزعة استقرارها إذا لم يتم التعامل معها بشكل جذري.

بالنظر إلى المستقبل يبرز أمام إسرائيل خياران أساسيان. الأول هو التعايش مع محيطها عبر تغييرات جذرية في سياساتها تتضمن الاعتراف بحقوق الفلسطينيين بشكل عادل وإنهاء الاحتلال والتخلي عن السياسات التي تغذي العداء مع جيرانها. مثل هذا التحول قد يمكنها من بناء علاقات طبيعية تقوم على الاحترام المتبادل والتعاون بدلًا من الاعتماد على القوة. أما الخيار الثاني فهو استمرار سياساتها الحالية القائمة على القوة العسكرية والدعم الدولي الذي لا يمكن اعتباره مضمونًا إلى الأبد، خصوصًا مع تزايد الضغوط الدولية وتعاظم الوعي العالمي بالقضية الفلسطينية. استمرار إسرائيل في هذا المسار يعرضها لخطر التراجع السياسي والعزلة المتزايدة.

العوامل المؤثرة في هذه المفارقة عديدة ومنها التحولات الديمغرافية التي تشكل تحديًا لإسرائيل مع تزايد نسبة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة وداخل الخط الأخضر ومنها الاعتماد الكبير على الدعم الغربي الذي قد يشهد تغيرًا مع تغير أولويات القوى العالمية. كما أن التحولات الإقليمية بما فيها تغير موازين القوى الاقتصادية والسياسية قد تعيد تشكيل طبيعة العلاقة بين إسرائيل وجيرانها مما يفرض عليها إما التكيف أو مواجهة مزيد من الأزمات.

إسرائيل اليوم تقف أمام لحظة تاريخية حاسمة فهي مطالبة إما باحتضان التعايش الحقيقي الذي يتطلب إعادة النظر في سياساتها وهويتها وإما أن تستمر في استراتيجيتها الحالية القائمة على العزلة والتفوق العسكري. ورغم أن هذه الاستراتيجية قد تضمن لها البقاء على المدى القصير إلا أن استقرارها الحقيقي سيظل مرهونًا بقدرتها على الإجابة عن سؤال جوهري: هل يمكن لكيان يقوم على الانفصال والتمييز أن يبقى في محيط يرفضه؟

لتكن خطواتك في الخير كمن يمشي على الرمل لا يسمع صوته لكن أثره واضح.