ولا يزال طريق الفيل، الذي ارتبط مسماه تاريخيا بمحاولة أبرهة الأشرم هدم الكعبة المشرفة في القرن الأول قبل الهجرة، عندما عبر بجيشه وفيله متوجها إلى مكة المكرمة، يثير الكثير من التساؤلات، خاصة ما يتعلق بمسميات الطريق ومساره وآثاره ومحطات توقف القوافل على امتداده قبل رحلة أبرهة الأشرم لهدم الكعبة، وهي القصة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، وانتهت بهلاكه.
مسميات الطريق
كشف الباحث والمؤرخ المهتم بالآثار الدكتور عبدالله الموسى أنه رافق بعثة أثرية عام 1414، مكونة من أعضاء وزارة المعارف حينها وجامعة الملك سعود، لتتبع طريق الفيل من ظهران الجنوب حتى الحفائر شرق خميس مشيط، برئاسة الدكتور عبدالرحمن الأنصاري، رئيس قسم الآثار والمتاحف في الجامعة، ومعه مجموعة من أساتذة الآثار من جامعات المملكة المختلفة. وأكد لهم الدكتور الأنصاري أن الطريق له عدة مسميات قديمة، وأنه موجود من قبل رحلة أبرهة، ولكن أدخل عليه أبرهة بعض التحسينات، إذ رصف الأماكن الوعرة، لتسهيل سير الفيلة التي لم يعتاد عليها أهل الجزيرة، وإنما كانت مركوباتهم الإبل والخيل والبغال والحمير.
وأضاف أن الدكتور الأنصاري أكد لهم أيضا أن الطريق اشتهر بعدة مسميات، منها:
- طريق أسعد الكامل، وهو أحد تبابعة اليمن.
- طريق أسعد ذو المنار، حيث وضعت على جنبات الطريق أكوام حجارة، عادة ما تكون على مرتفع، وتكون متقابلة على يمين الطريق ويساره، وتتكرر كل كيلو متر، وتشعل فيها النيران مساءً في فترات مرور القوافل، ليهتدي بها المسافر ليلا.
- طريق التجارة القديم، حيث كانت أغلب تجارة الجزيرة والشام تأتي عن طريق اليمن التي تصلها بعض البضائع عن طريق الحبشة والهند من خلال البحر، ثم تنقل على الجمال إلى أسواق الجزيرة والعراق والشام.
مسار الطريق
أوضح «الموسى» أنه أجرى دراسة ميدانية، تتبع خلالها مسار الطريق من حدود اليمن حتى نهاية منطقة عسير، على الرغم من تعرض أجزاء منه لعدة اعتداءات من الأهالي، لعدم معرفتهم بأهميته التاريخية. وقال إن أرجوزة الحج لـ«الرداعي» في القرن الثالث الهجري أوردت مسار الطريق، حيث سلك مع قافلة الحج الطريق نفسه، رابطا المسميات القديمة بالأسماء الحالية قدر الإمكان.
وبيّن أن طريق الفيل في الجانب السعودي يبدأ من الحماد بظهران الجنوب، بدءا بوادي شجع ببلاد بني حيف ووادعة، فوادي عمدان فالشقرة فالركبة، ثم الثويلة التي تقع على طريق نجران السريع، وقريبا منها مسجد خالد بن الوليد، رضي الله عنه، الذي لم يتبق منه إلا أساساته، ثم يمر الطريق بالعشة ثم قرية الشحاك، مرورا بالمجزعة شرق مدينة ظهران الجنوب، والطريق في هذه النقطة واضح المعالم لمسافة أكثر من 3 كم، بعدها يستمر شمالا، مارا بالمنضج (غيل علي)، ويسمى الآن «قرى الغيل»، الواقعة على وادي أرينب (الأرنب)، ثم ذكر شثاث، وهو جبل عظيم يشرف على قرى ظهران الجنوب، ويقع إلى الغرب بمسافة تقدر بـ3 كم عن طريق الفيل، ثم يمر بالطلاح (طلحة الملك)، وهي عدة قرى تسمى الآن «الطلحة»، ويسكنها آل منصور من قبائل يام، ثم جلاجل، وتسمى «القرارة»، ثم يتجه الطريق شمالا إلى المختلف، وتسمى الآن «الحمرة»، وتسكنها الآن قبائل الحباب، وتسمى أيضا «المنشر»، حيث التقت مذحج وقضاعة ونشروا فيه جمعهم، استعدادا للقتال، فسمي «المنشر»، وقيل «أعقق»، إذ يقول عمرو بن معد يكرب:
سوى أن أصواتا بأعقق لم يزل ... به آنس من أهله غير نازح
وجدنا به العمرين عمرو عدية ... وعمرو بن عمرو في جلال صلاطح
ويقال ذلك لسنحان ولد عمرو، ولعله عناهم في هذا البيت، حيث إن قبيلة الحباب ينتسبون إلى سنحان، ثم العقدة (عقدة سروم) من سنحان، وهو رأس الوادي، مرورا بـ«آل محنن» والسلاطين فرهجان، ثم وادي راحة في الفيض، ثم قرية القرحاء، مرورا بغرب خبت آل سلمان من عبيدة، ثم عقبات الشفشف، ثم الجميلان، وهي عقبة وجد بها الطريق ما زال مرصوفا عام 1414، ثم عراعر وذي الرمرام، وكذا الثجة منهل، وهي قريبة من وادي رغد، ثم وادي الخنقة، ثم المضابية وقرى الحوال، ثم العرجة التي توجد فيها بئر، مرورا بغرب العرقين ووادي الهجرة، ثم غرب جبل العارفعيل رسام فجنوب بلدة طريب فالمصلولة فالعطيفة، مارا بشرق جبل ام القصص فالحفائر من بلاد شهران، وسميت «الحفائر» لأن أبرهة عندما قاومته قبائل ناهس وشهران ومن جاورهم احتفر خمس آبار ما زالت قائمة حتى الآن، بعدها ينزل على وادي يعرى، وذكر أنه وادي لجليحة من خثعم، ويسكنه الآن قبائل ناهس من شهران، ثم أثب وراحة وجلجل، ثم وادي هرجاب فبنات حرب ونجر، وادٍ فيه بئران، وصنان شعب الذي يسمى «لحي الجمل»، ثم هضاب الربضات، موضع بين جبال به رضائم عظام كالآطام الكبار، وكان أهل اليمن يرون بها الغول والغيلان توهما، ثم عقبة الغضّار ورنوم، وفيه بئر طويلة، حيث يقول الراجز:
إن رنوما قطعت حبالي... وتركت كل جديدٍ بالي
وتسمى الآن «بئر بن سرار» من بلاد بني منبه من شهران، ثم صهي، موضع في وادي هرجاب، ثم بعطان بلد خثعم، ويسكنه الآن بني منبه من شهران، وتنسب إليه بيشة، وهو أحد أعراض نجد الكبار، ثم وادي ترج فذو سمار، بين ترج وتبالة، ثم البرَدَان قليب بتبالة، طيب الماء عذبه، إذ يقول الشاعر:
خذنا على البردان تسعين ليلة... وتسعين ما طب الحيا في شعابها
ثم تبالة، حيث ذكر الهمداني أنها كانت قرية ذات تجارة، وكان أكثر ساكنيها من قريش، فخربتها البادية، ثم رياض الخيل، وهنا ينتهي الطريق بمنطقة عسير. كما أن أجزاء من الطريق لا تزال واضحة في منطقة الباحة والطائف.
حادثة الفيل 571 م
أفاد المؤرخ فلاح الوتيد الشهراني بأن حادثة الفيل، التي وقعت عام 571 م، تعد من أكبر الحوادث المشهورة التي شهدتها شبه الجزيرة العربية، بعد أن شق أبرهة الأشرم الطريق، ورصف الجادة من ظهران الجنوب (بلاد وادعة)، مرورا بأرض سنحان وسراة عبيدة، متجهًا إلى مكة، لهدم الكعبة، حتى استقر بجيشة العرمر، تتقدمه الفيلة، بأطراف جبل أم القصص، وأقام عليه عرشه جنوب طريب. وقد تكتلت قبائل العرب بقاعة ديار ناهس، وتوحدت تحت قيادة الأمير نفيل بن حبيب الخثعمي، كما جاء في التفاسير والسير النبوية، للتصدي لهذا العدوان الغاشم. وكانت الأحلاف تتكون من ناهس وشهران وخثعم والقبائل المجاورة لهم الذين أجابوا نداء الدفاع عن بيت الله العتيق، ووقعت معركة تاريخية تلخصت آثارها اليوم في:-
1- جادة الفيل العظيمة.
2- المواجهة القتالية الأولى جنوب القاعة، وبها مقابر ومجادف بئر المبعوث المبهرة، والتي تقدر بآلاف القتلى.
3- الموقعة الثانية بوسط القاعة، وهي مقابر وجدر تتجاوز عشرات الألوف.
4- آبار الحفائر الخمس التي حفرها أبرهة في صلب الصخر، وما زالت مصدرا للمياه العذبة إلى اليوم.
5- المجزرة العظمى بوادي النخلة التى تعج بالرفات من الجماجم والعظام التي تفوق الخيال، ولها رائحة حنوط زكية مع أن الدفن بها على غير قبلة.
6- النقوش الصخرية من أشخاص وفيلة وأسود وطيور وغزلان وغيرها، عوضا عن النقوش بالخط الثمودي المسند والنقوش العربية من القرن الإسلامي الأول دون تنقيط.
7- معابد للشمس ومنحر للقربان.
8- تقاطع طريق الحرير من الجنوب للشمال مع طريق الفاو جرش من الشرق للغرب، والمحاط بأرصفة حجرية ومنارات إرشادية عليها مواقد نار من قطران، وبها رماد.
9- بقايا أوثان ونصب من العصر الجاهلي.
10- مبان عتيقة ومتارس متناثرة استخدمت في الدفاع.
التعديات طمست المعالم
أكد الشهراني أن التعديات على مواقع وأحجار طريق الفيل قد أخفت آثاره، بل إنها اندثرت بفعل تلك التعديات، وأيضا عوامل التعرية في ظل إهمال المحافظة على هذا الإرث والأثر المهم.
تراث اليونسكو
الدكتور عبدالله الموسى دعا إلى ضرورة ضم طريق الفيل، أو ما يعرف بـ«طريق التجارة القديم» و«طريق البخور»، لقائمة التراث العالمي بـ«يونسكو». وشدد على ضرورة شروع المسؤولين عن الآثار في منطقة عسير بسرعة في مشروع وطني، للمحافظة على البقية الباقية من آثاره بتسويرها، ومنع التعديات عليها، ووضع إرشادات للسياح والمهتمين بالآثار والباحثين عنها، وإجراء الدراسات العلمية التي تكشف أسرار وخفايا هذه الأحداث، وما جاء على هذه الأرض من أمم وحضارات كواجب وطني وإنساني، ورافد من روافد السياحة الوطنية في المستقبل، كما أكدت ذلك رؤية 2030.
توثيق 37 موقعا
وثقت الهيئة العامة للسياحة والآثار مسار درب الفيل، بدءا من أول نقطة بمحافظة ظهران الجنوب حتى منطقة الباحة، حيث بلغ عدد مواقعه 37 موقعا على امتداد مسافة تقارب 18 كلم، وهي الأجزاء الواضحة من هذا الطريق التاريخي، بواقع 18 موقعا في ظهران الجنوب، و5 مواقع في سراة عبيدة، وموقع في محافظة خميس مشيط، و12 موقعا في بيشة، وموقع في الباحة، بعد تشكيل فريق عمل مكون من 12 من المتخصصين في مجال الآثار والمساحة، بمشاركة مكاتب الآثار في عسير والباحة وبيشة. ورصد هذا الفريق المحطات والرسوم الصخرية الموجودة على امتداد المسار، وعثر على مساجد على جنبات الطريق وآبار وعدد من النقوش والمحطات والمدافن الركامية. كذلك سجل عددا من الأحجار الميلية التي كانت تحدد المسافة إلى مكة.
ووصل طول المسافة التي وثقت علميًا خلال المرحلة الأولى 44 كلم باتجاه مكة المكرمة. كما وثق 23 محطة وموقعًا. أما في المرحلة الثانية فمسح ووثق مسافة 160 كلم أخرى، و30 موقعا على مسار الطريق. وقد عثر على أشكال حجرية ومصليات صغيرة وعدد من الآبار المطوية، ما زال البعض منها مستخدمًا حتى الآن من قِبل سكان البادية، بالإضافة إلى عدد من النقوش والرسوم الصخرية والكتابات الكوفية. كذلك عثرت البعثات على أجزاء أخرى مرصوفة من الطريق باقية حتى الآن، وظهر أن أجزاءً من الطريق جرى تحديدها بواسطة الأحجار.