أتحدث هنا عن خلاصاتي الفكرية التي بدأت معي قبل أكثر من ربع قرن بقضايا إيمانية اتكأت فيها آنذاك على إمكاني الثقافي القائم على (تهافت الفلسفة) أكثر من قدرتها على فهم (تهافت التهافت)، ومع تقادم الزمن والخروج من بيضة (الإمكان الثقافي) الذي يمثل بيئتي، إلى فضاء (الإمكان العقلي) الذي يمثل (فردانيتي/ الجرأة على استخدام العقل)، رأيت أن الفلسفة في بحوثها الميتافيزيقية الكلاسيكية لم تعد محل اهتمام، ولكنها ما زالت حية وباقية وفاعلة (وتتمدد) في فضاء العلم والحياة، لقدرتها على استنطاق (المفاهيم) والأسئلة الضرورية لتعطي سفينة العلم إمكانية الإبحار في محيط الجهل، بل وحماية سفينة العلم من (جبل جليد الجهل) الذي لا يظهر في المجتمعات سوى رأسه الصغير، مخفياً أضعاف حجمه في بنية الثقافة البشرية، أقول الثقافة البشرية لأن بلداً مثل أمريكا لم يستطع حتى الآن تجاوز (الشرخ غير الظاهر) ما بين السود والبيض، ولولا اللياقة العالية ــــ حتى الآن ــــ للنظام السياسي الأمريكي في احتواء وامتصاص الصدمات وتعزيز ضمانات المواطنة لكانت ضمن العالم الثالث في مآسي حروبه الأهلية.

شكراً للفلسفة بالمعنى (الألتوسيري) التي ما زالت موجودة بفاعلية لاكتشاف تخوم جديدة على حدود العلم، وكذلك أهمية الفلسفة التي يجهلها كثير من القراء في كشف (البنيان الأيديولوجي) بين العلوم بعضها مع بعض، فارتباط الفيزياء بالرياضيات يعطي لغير متخصصي (فلسفة العلوم) معنى علميا ظاهره متماسك، بينما داخل هذا الترابط والتداخل تقع (أخطاء أيديولوجية) تمزج (المنطق الرياضي) بالرياضيات البحتة بالظواهر الفيزيائية، ولن يكتشف هذه الفراغات سوى الفلسفة. ولنتخيل فيلسوفاً متمكناً مثل (باشلار) يكشف للقارئ المهتم ما هو أعمق من هذه المسألة، إضافة إلى نقطة أخرى وهي أهم بالنسبة لمجتمعاتنا العربية وأقصد بها كشف الأيديولوجيات الخارجة عن أي معنى (علمي) واقتحامها فضاء العلم الحديث، بل وفضاء الحياة العامة مما جعل فؤاد زكريا يخرج لنا درته الثمينة كتاب (التفكير العلمي) كنمط حياة وليس نمط تخصص. فلو لاحظنا تطور العلوم منذ قرون حتى الآن سيدرك المعنى المقصود، فالفلك في القرون الوسطى ارتبط بالتنجيم، والكيمياء ارتبطت بالسحر، ثم مع تطور العقل البشري اختفى المنجمون والسحرة من (علم الفلك) و(علم الكيمياء) ودخل مكانهما (رجال الدين) كشركاء في مزج (علم الفلك وعلم الكيمياء بمفاهيمهم الدينية)، ولهذا استطاع العرب مثلاً أن يتطوروا في علم الفلك إلى مستويات متقدمة، ولكنهم عجزوا عن كسر ما تعارف عليه رجال الدين في الديانات السماوية آنذاك من أن الأرض مركز الكون، ولهذا فالجراءة على استخدام العقل في هذه المنطقة سجلها التاريخ لكوبرنيكوس.

هذه المقدمة المختصرة توطئة لنقاش سؤال علاقة (الدين والعلم)، الذي أراه ألا علاقة بينهما، كما لا علاقة بين (الطهارة والنظافة) فقد يكون التراب عكس معنى النظافة تماماً، ولكنه في الدين قد يكون طريقة من طرق (الطهارة/التيمم).


ويبقى السؤال عن تعارض (العقل والنقل) التي تضمر بداخلها جدل (النص) وهل هو فوق التاريخ أم داخل التاريخ؟ فمن يقول إنه داخل التاريخ سيستشهد بفعل عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- في عدم دفع سهم المؤلفة قلوبهم لانتفاء الأسباب التاريخية رغم وجودها كنص نسخه الزمن كما نسخ (عتق رقبة) في هذا الزمن بانتفاء الرق وتجريمه، ومن يقول إنه فوق التاريخ سيستشهد بأنه نص ترانسندنتالي/متعال على الزمن، ولكنه يضطر للعقل لاستخراج تأويلات لظاهر النص تستطيع استدماجه داخل تاريخها/ زمنها الحالي، ولهذا فتطورات الممارسة مع النص المقدس لدى (علماء اللاهوت المسيحيين) يكاد يستنسخها بعض المسلمين بوجهيها (الكاثوليكي المنغلق والبروتستانتي الأكثر انفتاحاً على التأويل).

يبقى السؤال الأخير: هل يمكن أن تظهر فلسفة عربية، وأقول_ بحسب فهمي_ إن كان المقصود بالفلسفة هو ما كان يطرحه اللاهوت المسيحي في القرون الوسطى، فإن الفلسفة العربية حاضرة من خلال (ابن رشد) والفارابي والكندي إن شئنا، وإن كان المقصود بالفلسفة أنها الكاشف الذي يفصل العلم عن الأيديولوجيا التي تضمرها هوامش العلم ما بين مثلاً (الكيمياء الحيوية/هوامش التماس ما بين علم الكيمياء وعلم الأحياء) فلا يوجد فلسفة عربية بهذا المعنى مطلقاً، وإن كان المقصود بالفلسفة هي الحامي الحقيقي للعلم من تغول الأيديولوجيات التي خارج العلم (دينية، غنوصية، أو حتى ماركسوية) فلا يوجد فلسفة عربية أيضاً بهذا المعنى مطلقاً، لأن الفلسفة الحديثة فضاؤها (علماني)، فحتى هايدغر رغم ما في فلسفته من نسائم (غنوصية) فإنه يقول: (لا مسوغ للقول بوجود فلسفة مسيحية، وذلك ما دام أن الشأن في الفلسفة ألا تتحدد إلا بدءاً من مقدمات إيمانية).

ولهذا فإن كل الأطروحات التي تنطلق مما يسمى (فلسفة إسلامية) ليست سوى امتداد حديث يستثمر الهرمونيطيقا والفينومينولوجيا كما استثمر الأقدمون المنطق الأرسطي في صناعة (علم أصول الفقه) القائم في مقدمته على (المنطق الأرسطي)، وفي أكثر حالاتها (المادية الجدلية) لن تتجاوز جهود حسين مروة في استنطاق التراث كامتداد طبيعي لأحد مناهج العصر الحديث، وبقول آخر: المنطق الأرسطي كان ضرورة تاريخية في محاولة (ضبط استقراء الأدلة) بعد انتقال المسلمين من حالة (اقتصاد الغنيمة) وما فيه من ثقافة توسعية إلى (اقتصاد الخراج) وما فيه من ثقافة أكثر مدنية واستقرار، وصولاً إلى توقف (العرب) منذ سبعة قرون، لنجد العتب الشديد من (الإمام الغرناطي الشاطبي) لمن تجاوزوا الحد مع القرآن فأضافوا إليه (علوم الطبيعيات، والتعاليم_ من رياضيات وهندسة_ والمنطق، وعلم الحروف...) فكأنما الامتداد الطبيعي لأحد علماء غرناطة هو ما نراه من (علمٍ حديث) يفرق بين ما هو (ديني) روحي وما هو (علمي) امبيريقي إن جاز التعبير.