تحدَّثَ المتأملون عن مصادرِ الجَمال في القرآن، وطرقوا أبوابًا تنحو نحو الإعجاز العاديّ وما فوقَ العادي، وربما التفتوا إلى أنَّ موسيقاه مبهرة، وهو ما يَجذب السامعَ له قبل أن يفهم المعنى، لهذا هل يمكن أن تكون الحروف المقطّعة موسيقى معنوية في ذاتها؟ فنحن نتلو: «حم» هكذا: (حا ميم) بمَدِّ الألفِ مدًّا يَصعد بالروحِ إلى السماء، ثم النزول مع لفظِ (ميم) نزولًا يُشجي السمعَ، ويُذكّره أنَّه على الأرض، وبهذا يكون اللسانُ يُغنّي بحرفين ساكنين، كل حرف على حدة، وقد قيل إنَّ الغناء سُمّي غناءً؛ لأنه يُستغنَى به عن الأحاديث، والأحاديث -هنا- هي التي تتطلَّب المعنى المتداول حين تجتمع الحروف، فجاءت الحروفُ المُقطَّعة؛ لتُغنِي الروحَ بالمعنى الموسيقي.

الحروفُ المقطّعة سُمِّيَت مقطّعة؛ لأنَّها في مَوضعِ تَهجٍّ، أي تقطيع اللفظةِ بحروفها مع حركاتها، وسُمّيت حروفًا؛ لأنَّ الحرفَ من كلِّ شيءٍ ناحيته، أو طرفه؛ لهذا يُقال: (حرف الجبل) أي طرفه، ويُقال (انحرف باتّجاه اليمين)، أي أنَّه نحا نحو اليمين، وهذا يعني أنَّ اليمينَ طرف في الطريق، وجزء منه، والحرف طرف الكلمةِ وجزء منها لا يستقيم الكلام إلا به، سواءً كان حرف مبنى أم حرف معنى؛ لهذا يُطلَق الحرفُ على القراءةِ القرآنية، كما يُقال (حرف ابن مسعود)، وبهذا تكون الحروفُ المقطّعةُ هي الموسيقى التي قُطِّعَت معانيها؛ لتكون إيقاعًا خاصًا لكلِّ قارئ. ولكنَّ المهم أنَّنا نتلو الحروفَ المقطّعة -في مطلع السور- كأنَّنَا نتهجّى الكلمات؛ لأنَّنَا نَجهل المعنى الدقيق، ثم نتلو ما بعدها بنغمةٍ أخرى مُتَّصلة كالذي يَعرف المعنى بثقة؛ فلفظُ (التَهجّي) يُصاحِبُ التَدرّبَ على القراءةِ عند الجاهل، وهذا ما سينقلني إلى سؤال: هل في الموسيقى والغناء حروف مقطّعة؟ هل نُغنّي ونكتُب الموسيقى بثقةِ العارفِ، أم بجهالةِ المُتهجّي، أم بالجمعِ بينهما كالقرآن؟

من أشهر القَصائد المُغنّاة (أعطني النَّاي وغنِّ)، وهي جملة ضمن قصيدةٍ طويلةٍ لجبران خليل عنوانها (المواكب)، وهي مواكبُ حياةِ الإنسانِ بين المدينة التي يُمثّلها واقعُ التناقضات المُضلِّلة، والغابة التي يُمثلها عالم الوحدة الذي ينفي المتناقضات، وتنتهي فقرة الغابة دومًا بــمقطع (أعطني الناي وغنِّ)، وتقود المواكبَ فرقةٌ تُوصِل الموسيقى إلى ذروةِ التجلّي الوجودي.


أهمية هذا الحوار بين المدينة والغابة أنه يُنتِج معنى الغناء والتساجل في ذاتها، وطالما أنه يُنتِج الغناءَ في ذاتِه فإنَّه مدعاة إلى جعل المعنى العميق لا يظهر مباشرة، وإذا تحولت هذه الحوارية إلى أن تُغنَّى بصوتِ فنانةٍ يسمعها العالم العربي كله، فإنَّ ذلك سيُضيع المعنى العميق أضعافًا مضاعفة، والمراد أنَّ هذه القصيدة الحوارية الطويلة تغوص في معنى الحياة وتناقضاتها وصوتٍ خارجها يسكن الغابةَ، وينتصر للموسيقى -ضدَّ الكلام والألفاظ والمعاني المتداولة- ولمَّا وصلت إلى أسماعِ الناسِ -عبر صوتِ فيروز العابر لأوطانِ العرب- أنسى السَّامعَ أنَّ القصيدةَ حوارية عن الحياة ومواكبها، وظلَّ يترنم بمعنى فيروزيّ، وهذا النسيانُ هو حجبٌ حقيقي؛ فأغنية فيروز حذفت جزءَ المدينة، وأبقت جزءَ الغابة، وكأنّي بشخصٍ ألغى من شعر (قلطة) صوتَ أحد المتحاورين؛ لأنه يُريد أن يُوصِل معنى جديدًا يشتقّه من أحدِ القولين عندما ينفرد، لهذا لم يكن المعنى الذي قالته فيروز هو المعنى الذي قالته حواريةُ (المواكب) الجبرانية، وهذا ما يربطنا بالحروفِ المقطّعة -التي لها إيقاعها الانفرادي الغائب الخاص بها- والمعنى الظاهر الذي يَنتج بعدها من الآيات، فقبلَ فيروز غَنّى هذه الأغنية نجيب حنكش، وهو إعلامي ومقدم برامج تلفزيونية، وانتقى من كلمات القصيدةِ شيئًا مختلفًا عن فيروز، لكنَّه مثلها في إلغاء جزء المدينة الذي يرمز للذات الظاهرة، وإبقاء جزء الغابة الرامز للآخر الغائب، وهذا ما يجعل الأغنيةَ بصوتِ فيروز ونجيب هي في خانة المعنى الخاص، أو المعنى الغائب، أو المعنى الباطني الذي تُريده النفس ضد قلق الحياة وتناقضها -كما يفعل ذلك الباطنيون في تأويلِ الحروف المقطعة- لكن غناء نجيب كان كحروفٍ مقطّعة تسبق غناءَ فيروز، إذ الملاحظ أنَّ نجيبًا ليس مطربًا، وأهميةُ ذلك أنه ظلَّ يتهجَّى الأغنيةَ، ولا ينطَلِق لسانُه، وكأنَّه يَتهجّى الحروفَ وهي مُقطّعة لا معنى لها، وربما لو تأملنا اختياراته من قصيدةِ المواكب؛ لاتصلنا بشيءٍ من هذا المعنى المقطّع، فنجيب استخدم النَّفي الذي جاء على لسانِ فتى الغابةِ مع حذف السياق وحذف موضوعات النفي الأخرى: «ليس في الغابات حزن/ لا، ولا فيها الهموم. ليس في الغابات موت/ لا، ولا فيها القبور»، وكأنَّنا مع هذا النفي الأبتر نَدخلُ في دائرةٍ تُشبِه موسيقى الحروفِ المُقطّعة، ويكفي أن يُنصَت له ولأدائه الفريد؛ كي يُشهَد خط جديد في الموسيقى بأداءٍ ليس غنائيًا اعتادت الأذنُ عليه، بل أسلوب مَن يُجَرِّب التَهجّي الموسيقي الذي يَجهل سِرَّ الخلود. ولفظة (الخلود) هي التي استخدمها جبران والتزم بها نجيب، وغيَّرتها فيروز إلى (الوجود)، مع أن الوجود في لفظ جبران سيفنى؛ وهذا ما جعل انتقاءات فيروز إثباتًا مبتورًا:

«هل جلست العصر مثلي/ بين جفنات العنب. زاهدًا فيما سيأتي/ناسيًا ما قد مضى».

إذن كأنَّنا أمامَ حروفٍ مقطّعةٍ في الموسيقى، أدَّاها لنا نجيب على الطَريقةِ الإعلامية في الإلقاء، أو أسلوب المذيع الذي سينطِق خبرًا مضطربًا، خبرًا سيُفاجئ الناسَ ويُدخلهم في دوامةِ سؤال لا إجابة له، وكأنَّ فيروز لمَّا جاءت بعده انطلقَ المعنى على لسانِها برشاقة، كما يَنطلقُ المعنى في الآيات بعد الحروفِ المقطعة، وهذا ما يجعل كلَّ حرفٍ مُقَطّع في القرآن متّصلًا -ضرورة- بالسورةِ التي جاء فيها.

التفاتة:

اللحنُ المُقطّع هو ما ميّز أغنيةَ نجيب، فالجملة الموسيقيَّة الأبرز في الأغنية مقتبسةٌ من مقطوعة موسيقيّة اسمها (لا كومبارسيتا)، وقد وجدتُ أنَّ من معاني هذه الكلمة الإسبانيّة (الموكب الصغير)، وقد تعني (الاحتفال)، والاحتفال موكبٌ إما صغير أو كبير، أليست قصيدة جبران عنوانها المواكب؟