ليس هناك من مجتمعٍ بشريّ إلّا وكانَ البعدُ الدّينيّ حاضراً فيه، وفي الرؤيا لمعنى الوجود وغاية الخلْق في ظلّ تحدّيات الحياة وصعوباتها وضغوطها، ومحاولة تفريغ هذا المعنى في حيثيّةٍ مكانيّةٍ وزمانيّة، شعوريّة وماديّة وطقوسيّة..

وقد ظهرتْ معالم التديُّن مع الإنسان القديم في مواقعِ سكناه الأولى (المغاور والكهوف) من خلال الرسوم والمجسّمات والطقوس الناظرة لعبادة كثير من مظاهر الطبيعة، والتي كانت تتظهَّر أكثر في أثناء الجنائز ومَراسم الموت، لتنتقلَ معه إلى حيث «عمرانه الجديد» في المستوطنات الزراعيّة الأولى القريبة من مساقط المياه والأراضي الزراعيّة، ولتبدأ فيها (ومعها) دورةٌ جديدة من العيش الزراعيّ المتطوِّر..

والحضارات الشرقيّة المعروفة بممالكها التاريخيّة المشهورة - التي بنت حواضر ومُدناً في كلٍّ من مصر والعراق وسوريّة - حفلتْ بالكثير من المَعالِم والمَظاهر ذات المضامين الدينيّة، حتّى قيل إنّ حضارة مصر - مثلاً - كانت حضارة الموت نظراً لتفنُّن قدامى المصريّين في «جنائزيّات» الدفن، وتفلسفهم في المراسم والطقوس الدينيّة الخاصّة بموت الفراعنة بالذّات.


باختصار كان الدّين فضاءً واسعاً ودافِعاً وموجِّهاً أساسيّاً لتلك المُجتمعات الحضاريّة، في كلّ ما قدَّمته وأَعطته للحياة الإنسانيّة من نِتاجات وإنجازات روحيّة وماديّة حضاريّة متنوّعة في مختلف مواقع الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة وغيرها.

وحضارة مدينة أوغاريت، التي أشادها الكنعانيّون في العصر البرونزي الحديث، كانت واحدة من أهمّ مُدن الساحل الكنعاني التي تُعتبر من أرقى أجزاء الشرق القديم.

نَشأت أوغاريت بدايةً على تلٍّ زراعي (سمّي تلّ رأس شمرا نسبةً إلى نَبتة الشمّر التي تنمو بكثافة على التلّ المذكور)، سكنه الإنسان القديم (حيث وُجدت آثارٌ لعصورٍ برونزيّة قديمة)، يقع شمال مدينة اللّاذقيّة السوريّة، يحيط به نهران جاريان باستمرار، يغذّيان المدينة، فتسري الحياةُ فيها وفي كلّ تلك المنطقة منذ ما قَبل الألف الثانية قَبل الميلاد، لتتسارَع تطوُّرات المُجتمع الزراعي في أوغاريت، الأمر الذي حوَّل تلك البقعة الزراعيّة ذات المساحة الصغيرة (25 هكتاراً) إلى مدينةٍ عامرة ومزدهرة، وتضجُّ بالحياة الاجتماعيّة والدينيّة والنشاط الاقتصادي والعلاقات التجاريّة والحضاريّة مع مَراكِز وممالك حضاريّة أخرى، مقدِّمةً للبشريّة أبجديّتها الأولى (الأبجديّة الأوغاريتيّة) التي تُشابه في ترتيبها الأبجديّة العربيّة مع بعض الفروق البسيطة.

مَعبد بعل ودجن

وتعدُّ المظاهرُ الدينيّة إحدى أهمّ مَعالِم الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة في الحضور الإنساني لمدينة أوغاريت، وهذا ما كشفته التنقيباتُ الأثريّة المتكرّرة في التلّ الأثري، حيث ظَهرت أماكن عباديّة مقدَّسة عدّة، لم يبقَ منها سوى مَعبدَيْن أساسيَّيْن يقعان فوق الأكروبول (المُرتفع) في الجهة الشّماليّة الشرقيّة من التلّ الأثري، وهُما معبد «بعل» ومعبد «دجن» اللّذان كانا يمثّلان أهمّ مَوقع وميدان لمُمارَسة الحالة العباديّة بمظاهرها (الطبيعيّة) المتعدّدة، من تقديم القرابين والأضاحي، وطقوس العبادة والصلاة والدفن والاحتفالات الموسميّة، وغيرها ممّا له علاقة بطبيعة الحضور الاجتماعي للدين في حياة المُجتمع الأوغاريتي.

وإضافة إلى المَعبدَيْن السابقَيْن، بنى الكنعانيّون عموماً، ومنهم الأوغاريتيّون، الكثيرَ من الهياكل والمَزارات والمَقادس (أماكن العبادة المقدَّسة) في أماكن مرتفعة (كرؤوس الجبال) من الجغرافية السوريّة، كانت تجري فيها أعمال الذبح والتقديمات القربانيّة، حيث كان الخبز والطيور والخمر والحيوانات من أهمّ العطايا التي يتمّ تقديمها للآلهة التماساً لنَيل رضاها.

ولم يكُن المعبد الأوغاريتي مكاناً لأداء طقس العبادة فقط، بل كان أيضاً مقرّاً للكاهن أو رجل الدّين، وللمَلك أيضاً خلال إشرافه على أداء مَراسم الاحتفالات الدّينيّة المُختلفة، كما اشتملَ على فراغات للمخازن والمشاغل في المدينة، بما يعطينا فكرة عن طبيعة الدور الإداري والوظيفة الاقتصاديّة التي كان يؤدّيها المعبدُ وكَهنتُهُ في علاقتهم مع القصر والمُجتمع والناس.

وأيضاً أظهرت لنا الحفريّات الأثريّة الأركيولوجيّة التي بدأت في أوغاريت منذ العام 1929، أنَّ تاريخَ المَعبدَيْن السابقَيْن يعودُ إلى فترة العصر البرونزي الوسيط، واستمرّا في الخدمة والعمل الدّيني حتّى حدوث الدمار النهائي الكبير والأخير للمدينة (على يد شعوب البحر) في مطلع القرن الثاني عشر قَبل الميلاد (1180 ق.م).

وعلى هذا المَسار، زوَّدتنا النصوصُ الأوغاريتيّة الخاصّة بالحياة الدينيّة وبمختلف مناشط الحياة الشعائريّة للمَعبدَيْن السابقَيْن (وهي نصوصٌ مسماريّة كُتبت خلال القرنَيْن الثالث عشر والثاني عشر ق.م)، بالكثير من المعلومات والمُعطيات المهمّة عن هذا البُعد المُهمّ في حياة سكّان هذه المدينة المزدهرة؛ بحيث يُمكننا القول إنّ المعبد الأوغاريتي كان مركزَ حياةِ المُجتمع بطبقاته ومستوياته الاجتماعيّة المتعدّدة، وخَدَمَ وظائفَ وأغراضاً كثيرة، كان من أهمّها، رعاية الاحتفالات الكبرى تكريماً للآلهة، والإشراف على تقديم القرابين للآلهة، وتكريس العلاقة الرّاسخة بين المَلك والآلهة.. والأهمّ من ذلك، كان دَور رجال الدّين (الكهنة) الذي تركّز بالدرجة الأولى في عملهم على تنظيم شؤون الناس ونشاطاتهم الاجتماعيّة والحياتيّة عموماً، كي تتوافق كلّها مع مقتضيات مُمارسة طقوس العبادة التي كانوا هُم سدنتها وسادتها، يكرّسون واقعَ الحياة السياسيّة والاجتماعيّة التي كان المَلكُ محورَها وناظِمَها الأساسي، فهو (أي ملك أوغاريت) الحاكِم السياسي، وهو أيضاً الكاهن الأكبر أو كبير الكهنة، وسيّد المَملكة المُطلَق، والقاضي الأكبر، وقائد العسكر والجيش، يليه مُجتمع النبلاء والكهنة ورجال الدّين، ومن ثمّ الموظّفون والتجّار والصنّاع والأحرار والعاملون في الزراعة، وأخيراً طبقة العبيد.

ومن أشهر النصوص التي أعطتنا معلومات واضحة وجليّة عن العبادة في أوغاريت، تلك النصوص الأدبيّة الرئيسة الثلاثة: دَورة بعل، أسطورة كيريت، حكاية آخات، وتشمل النصوص 150 لوحاً تَصف العبادات والطقوس العباديّة في أوغاريت، و100 مُراسَلة، مع عددٍ قليلٍ جدّاً من النصوص القانونيّة، ومئات النصوص الإداريّة والاقتصاديّة (Schniedewind,William and Hunt, Joel, Primer on Ugarit: Language, Culture and Literature, Cambridge University,2007.).

تشيرُ تلك النصوص - على الصعيد الديني - إلى أنّ مُجمّع الأرباب الإلهي (البانثيون) الأوغاريتي، كان يتضمَّن مجموعةً من الآلهة، مثل كلّ مُجتمعات الكنعانيّين وحضارات الشرق القديم التي كانت تعتقد بتعدُّد الآلهة.. لكن ما يُلاحظ هنا، أنّه على الرّغم من أهميّة تلك الآلهة والطقوس العباديّة في حياة الناس والمُجتمعات الكنعانيّة (ومنها أوغاريت)، فهي لم تكُن ذات سماتٍ ثابتة ومحدّداتٍ انضباطيّة نهائيّة، بل كثيراً ما كان يَحدث شيءٌ من التبادُل - إذا جاز التعبير والوصف - في صفات تلك الآلهة، وفي وظائفها وصِلاتها مع بعضها وحتّى جِنسها، والسبب الكامن وراء ذلك هو أنّه لم يكن للديانة الكنعانيّة منهجٌ كهنوتيٌّ مُنظَّمٌ تنظيماً صارِماً مثلما هو الحال في حضارات بلاد الرافدَيْن ومصر القديمة.. إذْ كانَ للمدينة الكنعانيّة (أوغاريت وغيرها: جبيل، صيدون وغيرهما) آلهتها الخاصّة، لكنّ آلهة المُدن الكنعانيّة تعرَّضت لتطوُّراتٍ كثيرة من خلال تغيُّر التصوُّرات الدينيّة والمُعتقدات الميثولوجيّة، وهذا أثَّر على وجود الآلهة نفسها، حيث قد تختفي آلهة، لتحلَّ محلَّها آلهةٌ أخرى، كما قد تدخل آلهةٌ أخرى غير كنعانيّة إلى مجمّع الآلهة الكنعاني (أنظر: جان بوتيرو، بلاد الرافدين: الكتابة، العقل، الآلهة، ترجمة ألبير أبونا، بغداد، 1990).

«عمّو»، «حمّو»، «خالو»

وبشيءٍ من التفصيل عن آلهة أوغاريت، فقد كان هناك الإله «بعل»، إله العاصفة والمَطر والزَّرع الخصيب، وله تماثيل يُلوِّح فيها بالصّولجان كرمزٍ للبَرق المتسبِّب - مع المطر - في إنبات الزَّرع وتشكُّل أوراق الشجر في إعلانٍ عن ولادةٍ جديدة للغطاء النباتي.. وغالباً ما تُوِّجَ بالذهب على الطريقة الفرعونيّة أو بتاجٍ على ما كانَ مُعتمداً عليه في بلاد ما بين النهرَيْن.. كما كان هناك الإله «يم»، وهو إله البحر.. والإله «موت»، وهو إله الحصاد والموت الذي يختفي تحت الأرض بعد ولادة بعل.. وهنالك أيضاً الإله «دجن» أو «داجان»، وهو إله القمح والمحراث (ويسمّى بإله الطعام).. والإله «اليان بعل»، وهو إله المياه الجوفيّة والآبار والأنهار والينابيع.. والآلهة «عنات»، وهي شقيقة بعل وعشيقته في الوقت نفسه، ويُقال إنّها هي إلهة الصيد والحرب.. والآلهة «عشتروت» أو «عشترت»، وهي آلهة الحبّ والخصوبة والجمال.

لقد كان لتلك الآلهة الأوغاريتيّة علاقةٌ وثيقة شبه يوميّة بحياة الناس في المُجتمع الأوغاريتي، وداخلة إلى كلّ تفاصيل وجودهم على كلّ المستويات والأصعدة الروحيّة والماديّة، في الاسم والمَأكل والمَسكن.. حيث قد حَمَلت أسماء القربى العائليّة أسماءَ عَلَمٍ لها مثل «عمّو»، «حمّو»، و»خالو».. هذا كلّه كان يَعني أنَّ الإنسانَ - بحسب الاعتقاد الدّيني الأوغاريتي - مرهونٌ بكليّته للآلهة، منذ لحظة ولادته من خلال تسميته بالدرجة الأولى، والنّذر له لدى الآلهة.. فالمصير بيد الآلهة يعني أنّه ليس للبشر من سبيلٍ سوى التماس الرضى الإلهي، والعمل على نَيْل البركة منها من خلال تقديم القرابين والنّذر والمُشارَكة في المَراسم والاحتفالات والنشاطات الدينيّة الاجتماعيّة.

لقد ركَّزت العبادةُ في أوغاريت على هذا المعطى الطقوسي، وتمَّ استخدامُ مصطلحٍ واحدٍ للدلالة على فعْلِ تقديم القربان، وهو الفعل «DBH» (دبح = ذبح)، أي قدّم ذبيحة. أمّا المكان الذي كان يتمّ فيه تقديم الذبيحة فيُدعى «MDBH» (مدبح = مذبح)، ويرجع المعنى الأصلي لهذه الكلمة إلى الطريقة التي يتمّ من خلالها تنفيذ هذا الفعل المقدَّس الذي كان يجري تحت ظلّ مَلك أوغاريت ورعايته بوصفه الكاهن الأكبر أو راعي الكَهنة.. والمثال الأهمّ الوارِد في تلك النصوص ما جاء في ملحمة «كيريت» التي تصفُ بوضوح عمليّة تنفيذ فعْل التضحية (الذّبح المقدَّس). فقد جاء فيها:

اغتسلْ وتدهَّنْ بالدّم

إغسلْ راحتَيْك ورسْغَيْك

إغسلْ يدَيْكَ من الأصابعِ وحتّى الكتف

خذْ ضَأناً بيدكَ

ضَأناً قدّمه قرباناً

وجدْيَاً بيدَيْكَ الاثنتَيْن

خُذِ الخُبزَ الذي في العَنبرِ كلّه

خُذِ الطيرَ

طَير القُربان

اسكبِ الخَمرَ في الكأسِ الذّهبيّة

اصعدِ البُرجَ

اصعدْ إلى أعلى الجِدَار

وابسطْ يدَيْكَ نَحْو السَّماء

قدِّمْ قرباناً لأبيكَ الثّور إيل

واكسبْ رِضا بَعْل بقربانك

ورِضَا ابنَ دجَن (داجانو) بصيدِك

(أنظر: إ. ش. شيفمان، ثقافة أوغاريت، طبعة العام 1988).


ممّا تقدّم نخلص إلى ما يلي:

1 - الدّين والعبادة أمران أساسيّان في مُجتمعات المَملكة والمُدن الأوغاريتيّة، ومنها وعلى رأسها مدينة أوغاريت، وهو أمر داخل في كلّ تفاصيل الحياة الخاصّة والعامّة للإنسان الأوغاريتي، يتفاعَل مع يوميّاته ومعيشته وخبزه وحركته الوجوديّة كلّها، من مَولده إلى مَماته.

2 - هناك تعدُّدٌ في آلهة أوغاريت، ولكلٍّ منها وظيفة ودَور معيّن. أنظر: (James L. Kugel. How to Read the Bible, 2008).

3 - ملك أوغاريت هو كبير الكهنة، ويشرفُ على كلّ مراسم الاحتفالات الدينيّة (وغير الدينيّة طبعاً) في مدينة أوغاريت.. وذَكَرَ أحدُ النصوص الطينيّة أنّه بعد أن يترأّس في البداية الاحتفالَ بالسنةِ الجديدة، يعود الى مقرّه ويَرفع يدَيْه عالياً نحو السماء..

*كاتب وباحث سوري

* ينشر بالتزامن مع دورية افق الإلكترونية.