بين التيه والنسيان وضياع قيم الأزمان بين أن نكون أو لا نكون، فننسى أن نستشعر قيمة المنزل الآمن، والمسكن الدافئ، وضحكات يشهد على صخبها السقف الواقف.

مع تكرار الأحداث تتشكل في أذهاننا صورٌ مألوفة لما نعيشه فيتلاشى شُعورنا بالامتنان لكوننا بالأمان فقط أغنياء.

بين فرق الحضور رغم كثرته، وقلة الشعور رغم صلابتِه


بين طرق الغربة وأوطانها المُبطنة بدأت حكاية البذرة التي زُرعت بأرض وأثمرت في أُخرى.

لم يكن ثُقل الحقائب هو ما جعلهُ يرتاب بل كيف يتخلى الإنسان عن عالمٍ بأكمله من أجل نفسه؟

كانت مشقة أن تكون مُختلفًا تعني أن تحمل حقيبة مليئة بالأسئلة وتُغادر عالمك الأحب.

بينهُ وبين نفسهِ يُردد : خُلقتُ لهذا السفر ، وصُنْع ذاتِي من الصفر.

رغبة ألّا تكون عاديًا، فتستيقظ لِتأكل وتجرّ الأيام حتى تنام، رغبة ألّا تتساءل لأنك إنسان بل تبحث عن الأجوبة وتسافر عبر الطُرقاتِ والأزمان. بخطواتٍ مُترددة اختار أن يتجرد من المنزل الآمن، والصحب المزيفين، والمدينة المألوفة ليسلك طُرقًا لا تُمثله، وأماكن لا ترحّب به، ونوافذ لا تأويه، ومنازل يتخللها الصمتُ لتُعيد ترديد أسئلة ذاتية الوجود، مبتذلة في الردود، وخائفة رغمًا عن الصمود.

من أنا؟.

يطنُ هذا الصوت في رأسه كل يوم، يصطدم بالآخرين مرارًا وتكرارًا، ويُبالغ بالتحديق في الغُرباء، لا أحَد يعرفه! ولا يعرف أحدًا، سِوى السؤال الذي أتى به، ومعرفته بأنهُ ولدَ من جديد في مدينة جديدة يملؤها الضجيج و الصخب، وشوارع مديدة يتنقّل بينها الناس إلى وجهاتهم.

لقد عاش أيامًا يُسجل بها عقله جُلّ ما يرى دون أن يتحدث كآلة تصوير قديمة تُسجل اللحظات وتتعطل عند بثها.

كان عقله محشو بالأسئلة، لم يكُن يهاب الأجوبة بل كان يهاب أن يبحث عنها بالطرُق الخاطئة، ولم تقلقه الحشود بقدر ما أقلقهُ أن يُنسونَه وجهته، فكان يضع لكُل شيء معنى، فملامح ذلك الذي يجتمع حوله أصدقاؤه الضاحكون حزينةٌ وهم لا يعرفون، وانحناء ظهر ذلك الرجل كان بسبب عزة ذاتِه التي تجعله يعمل تحت لهيب الشّمس رغم مرضهِ، وصراخ تلك الأم على أولادها منتصف الطريق كان بسبب خوفها من أن يُصبحوا ضُعفاء فتتمكن منهم الحياة، كان لكل شيء سبب، حتى تلك الأشجار لم تُزرع من أجل الثمار بل وضعوها كأسوارٍ تُجمل الطريق وتُهدِّئ من روع السائرين.

لم ينسَ أن المدينة التي تركها من أجل نفسه لم تكُن تُشبه الأخرى الصاخبة، كان يعلم بينه وبين نفسه أنهُ بعالم غير عالمه، فكيف بعد مرور عشرين عامًا يُعيد اختراع ذاته ويُغادر وسائد الراحة ويولد بعالم آخر وحده؟.

إنه ليس صعبًا أن تتخلى عن حياة بأكملها من أجل نفسك لكن المشقّة كلها تتجسد في ألّا تجد نفسك التي اخترتها، وأن تعود خالِي الوفاض رغمًا عن ضجيج الأماكن، وصخب الشوارع، وخذلان الأصدقاء، وعودتك للمنزل مرارًا دون رائحة إناء، لقد أدرك أنه أصبح كل شيء لنفسه، فمع مرور الوقت أصبح الإخوة الذين يحدثهم، والأم التي تُطمئنهِ، والأب الذي يُحذِره، أصبح عائلة لنفسِه من أجلها.

فالمحطة الأولى امتلأت بالهلع والتعرف على الأماكن والأشخاص بصمتٍ مُبتلع، وأثناء تخبطهِ بالشوارع باحثًا عن وجهٍ يألفه أو مسكن يعرفه، أو نورًا يوقَد فيصِدره.

قرر أن يستريح من أفكاره ويختار أقرب مكان يأوي إليه، ولم يدرك حين جلس أنهُ بالأصل جلسَ على درج المعرفة، وبجانبه لوحة مكتوب عليها بخط عريض -هناالمكتبة-.

إن أول مكان اختارت أقدامه السّير إليه بثقل دون أن تعي في أرضٍ غريبة، ومسالك مُريبة وحرص مُمتلئ بالقلق .. كانت المكتبة.

على الأرض تتجسد الحكايات .. وطابع مُمتلئ بالبدايات .. كالشغف الذي أنار الأوراق وابتهج بِه ..

أدرك أخيرًا أن أجوبة الوجود لم تكُن في أشخاص غُرباء، أو شهادة علم كتب عليها امتياز، أو عقل يملؤهُ حُب التفكر والتأمل بالحياة، أو سفَر يُغير بهِ مجرى حياته ليحصل على نفسهِ فقط، بل كانت أعمق من ذلك .. إن أجوبة الوجود تكمن بالمعرفة والنور الذي يشَع من عُمق الإنسان.

فأصبح يزور المكتبة، وسمّاها ملاذه الآمن، فيختار الكتب بعنايةٍ وكأنهُ يختارُ صديقًا ما، وكل ما قَرأ همّت إلى عقلِه معان جديدة، وفصول عديدة، وآفاق مديدة، وأصبح يُدرك الحياة كإدراكهِ لذاتِه، فَعقله الذي يُشبهِ آلة التصويرِ القديمة أصبح يكتظُّ بالمعرفة ويسردها كقصصٍ على الأوراق، تَدل العابرين على وجهاتهم وتُنير طُرق الأنفاق، فحين ظنَّ أنهُ خسِر حياتهُ بيدِه هو في الحقيقة كسب نفسه، فالخسارة ليسَت بِخسارة إن كان نهاية المَطاف هي إعادة تعريف اتجاهاتك وضبط بوصلة حياتك والفوز بذاتِك والحصول على أثرٍ يُشبهها.