في أحد الصباحات الهانئة بمدينة كريف كور في أمريكا؛ صادف أنني خرجت للعمل يومًا في وقت مبكر، لأجد قطيعًا صغيرًا من الغزلان ذات الذيل الأبيض، يرتاح أحدهما على عتبة بابي وبقية من يبدو لي أنهم أسرته - لتفاوت أحجامهم - ينتشرون على بعد خطوات من في واجهة حديقة المنزل وقرب أسوار الجيران. جفلت من الغزال وجفل مني بصورة أقل لاعتياده على رؤية البشر وتعاملهم السلمي معه، ثم ركض رشيقا تجاه الغابة القريبة فوق التلال وتبعه فريقه من الغزلان الباقية. كنت دائمًا أشعر بتشابه كبير بين هذه المدينة وبين مدينتي أبها، ربما كان حنين الأماكن لا غير، وربما لأمطارها الربيعية، واخضرارها البديع، وتلالها التي تذكرني بقريتي في السودة وما يحيط بها من غابات، مع فارق التشبيه بين شدة الاخضرار هناك والبحيرات الكثيرة، وبين غزو التصحر لأعالي أشجار العرر لجبالي الباردة، وندرة الحيوانات التي لم أر فيها غير قطعان الماشية المستأنسة من غنم وبقر يملكه الأهالي، وبين قرود بابون أصبحت أكثر انتشارا وجرأة مع السنين. كلما مررت هناك بلوحة تحذيرية على الطرق الداخلية أو السريعة تحمل صورة غزالا أو بطا، تذكرت لوحات بلادي التي تحذر من احتمال مرور الجمال قرب مواطنها الأصلية، وخلو قرى السودة من أي تحذير لمرور أي حيوان يذكر. وحينما أرى في تلك المدينة لوحات تنبه العامة على ضرورة عدم إعطاء الطعام للبط، وذكر الغرامات المتعلقة بذلك داخل الاحياء السكنية، وقرب البحيرات ومجاري الأنهار، أتذكر أطنان بقايا الأكل بأماكن معلومة على مداخل العقبات في أبها، وفي سفوح الجبال قرب مداخل المدينة وخارجها التي يلقيها الأهالي للقردة. وفي أعلى المرتفعات التلية وسط الغابات الكثيفة حيث يطيب لنا الاكتشاف والتخييم كنا نصادف لوحات تحذيرية أخرى عن احتمال وجود الدببة السوداء، أو حيوانات القيوط، أو الثعالب والوشق الأحمر، وطريقة الحماية منها دون تعريضها للأذى، وجهات للاتصال للتدخل السريع لحماية الطرفين، فأذكر قصص أجدادي عن النمور العربية والسباع المفترسة والوعول الجبلية التي كانت تقاسمهم الحياة في جبال السودة وسفوحها، وكيف تعايشوا معها بحلالهم المستأنس، وبساطة أدواتهم للحياة والحماية. غالبًا ما تكون المقارنات بين مكانين غير منطقية، لظروف كل مكان وفارق حضاري وتاريخي وبيئي كبير بينهما، لكن كل تلك الصور تداعت للذاكرة مع صور الوعول الجبلية الخمسة عشر التي رأيتها تركض نافرة لحياة جديدة على قمم جبال السودة الخميس الماضي، التي أطلقها المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية في مبادرة مهمة بالتعاون مع شركة السودة للتطوير، لتحقيق أحد أهم أهداف مبادرة ولي العهد في «السعودية الخضراء» من خلال إعادة التوازن البيئي والتنوع الإحيائي في هذه المنطقة المهمة وتعزيز مفاهيم الاستدامة البيئية وما يتضمنه ذلك من حماية الكائنات الحية من خطر الانقراض وما يحققه بنتائجه المرجوة لأهداف التنمية المستدامة للحياة البرية.

إعادة الوعول الجبلية لمواطنها الطبيعية وتعاون الجهات ذات العلاقة حول رعاية هذه العودة من أفضل ما يقدم للبيئة، وإن لم يُلمس أثره إلا على المدى البعيد خاصة في تلك الأماكن التي تعرضت كثيرا للإهمال البيئي من صيد للحيوانات المفترسة، وقطع للأشجار والاحتطاب الجائر ورمي النفايات وغيرها من أساليب تراكمت عبر السنين مسببة عدة مشكلات بيئية تحتاج مثيلها من السنين للانتهاء منها ولو نسبيًا، وضعفها من الوقت والجهد للتوعية، والإرشاد وفرض القوانين التي تحمي البيئة وما يشكل ملامحها الرئيسة في كل منطقة.

كان العتب الأكبر على الجهتين اللتين قادتا هذه الخطوة الكبيرة في إطلاقها للوعول الجبلية بالسودة، هو نقص التوعية التي ينبغي أن تسبق مثل هذه العملية في أوساط المجتمع من خلال الوسائط المختلفة، فليس كل الناس على إطلاع للإعلام التقليدي أو الحديث الذي يذكر هذا الخبر لعدة ساعات ثم ينتهي. وكأني بأحد زائري المكان أو ساكنيه، يشاهد وعلا جبليًا أمامه لأول مرة في حياته- على افتراض أن الخمسة عشر وعلًا طليقة خارج أسوار محميات مخصصة- كيف ستكون ردة فعله؟ إحدى ردات الفعل المتوقعة أن يرديه قتيلًا إما للأكل أو التباهي. ولا نستطيع لوم هذا السلوك العدائي مطلقًا ما لم تكن هناك توعية مسبقة لمثل هذه الحملات، وقوانين وغرامات مكتوبة في الأماكن المتوقع وصول الوعول فيها للمساكن والطرقات والمتنزهات.


التوعية المقصودة هنا التي ينبغي أن تسبق مثل هذه الحملات البيئية كإطلاق الوعول البرية، كان بالإمكان أن تتم بالتعاون مع أكبر مؤثر في المجتمعات وأكثرها وصولًا للأسر، من خلال التعليم الذي يتعاون دائمًا توعويًّا وإرشاديًّا مع وزارات مختلفة كالتوعية بالسلامة المرورية أو أضرار المخدرات أو حتى التسويق للفعاليات الوطنية والاجتماعية والثقافية من خلال حزمة برامج مخصصة ولها معايير ومؤشرات فاعلة، وكم كان أجمل أن تطلق مثل هذه الفعالية بحضور عدد من الطلبة من مراحل تعليمية مختلفة يشهدون هذه الانطلاقة التي ستنطلق في ذواتهم تجاه هذا الكائن الذي سيرتبط بهم شعوريا وينمي حس الانتماء والمسؤولية فيهم.

أو أن تكون التوعية أيضًا من خلال مشايخ نواب القبائل في المنطقة أو خطباء الجمعة بعد انتهاء الصلاة بعد تلقيهم توجيهات واضحة بذلك. أو يكتفى بحملة مختصة من الشركات الكبرى، أو هيئات المنطقة المختصة كهيئة تطوير عسير، فلو سبق إطلاق الوعول حملة توعية موجهة توضح التنوع البيئي لمنطقة عسير، والاحتمالات التي قد يحملها هذا التنوع البيئي من وجود كائنات حية مختلفة، وما الذي كان منها وكيف انقرض، وما الخطط الاستراتيجية التي تنوي كل جهة أن تنفذها لتحقيق أهداف التنمية المستدامة وارتباطاتها بالمبادرات الأخرى كالسعودية الخضراء أو رؤية المملكة 2030. بمعنى أن يسبق إطلاق وعل جبلي في السودة واحتمال تعرضه للخطر، حملة منظمة توعويه تجعل رؤيته ورؤية النمر العربي لاحقًا والذئاب والثعالب والطيور النادرة أمرًا متوقعًا، يحفز المجتمع للحفاظ عليها والتعامل معها بوعي ومسؤولية بعيدًا عن عشوائية بقايا طعام البابون الملقاة في كل مكان.