لكن قضية العنف ضد المرأة أكبر من أن تكون مجرد مؤشرات وبيانات ترصدها الدول سنويا، وحزمة من القوانين المعلنة والإجراءات المتخذة ليقاس بها تطورها وسباقها الدولي، العنف ضد المرأة حقيقة وجدت منذ قدم الإنسان في الأرض وستستمر مادام التعامل معها والنظر لها يأخذ مقاييس وأبعاد بعيدة عن الإنسانية.
الطبيعة التي عوملت بها المرأة في مختلف الحضارات والأديان والمذاهب، والتي غالبا ما تقلل من شأنها باعتبارها العنصر الأضعف، جسديا وعقليا واجتماعيا، في سلم الترتيب الإنساني هي المسبب الأول للعنف الممارس ضدها على مدى الأزمان، سواء كان عنفا نفسيا أو جسديا أو جنسيا.
ومن المدهش أنه حتى وقت قريب وفي تجمع محلي يعد ثقافيا وعلميا إلى حد ما، ما زال هناك من يطرح وباقتناع تام أن المرأة مخلوق آخر غير الرجل، باعتبار الإنسانية للرجل والمرأة مخلوق آخر لم يتم تصنيفه بعد، لكنه أقل في قدراته ومكانته من الرجل، بل ويزعم أن الموضوع مسألة وقت، حتى تنكشف حقيقة تصنيف هذا المخلوق من خلال دراسات وأبحاث يجريها المهتمون.
بعيدا عن هذا الإشكال العقلي لمن يؤمن بيقين مطلق بمسألة الرُتب والتصنيفات بين الرجل والمرأة، فإن تبني مثل هذه الفكرة هو ما يؤدي بطبيعة الحال للمعاملة المختلفة مع المرأة، والتي غالبا ما تأخذ شكلا من التدني والقلة الذي يتمثل في العنف والإهمال والإنكار.
والأسوأ حينما تؤمن المرأة أنها فعلا أقل رتبة من الرجل في حقوقها وواجباتها، وتتقبل العنف الممارس ضدها، وترى أنه الطبيعي والمفترض.
إن المرجع الأول لكل عنف يمارس ضد المرأة هو الشعور الذي يكنه الرجل للمرأة بأنها مصدر محتمل للعار، ثم اليقين بأنها لم تُخلق إلا لخدمته ورعايته، والسبب الأول لتقبل المرأة للعنف الممارس ضدها هو الشعور بالخوف، ثم اليقين بأن الرعاية والعناية بالرجل هو دورها الأول والأخير الذي لا يحتمل أي تقصير.
إذن فالخوف هو الثيمة الأولى للعنف ضد المرأة؛ يخاف الرجل المرأة باعتبارها مهددا لمكانته الاجتماعية وسمعته؛ لأنها مستودع الإنجاب ومستهدف الرغبة، وتخاف المرأة التي تؤمن بهذا من الرجل الذي يملك السلطة والمال والقوة، فتستسلم لهذا الخوف ومصائره التي تأتي غالبا على شكل عنف بصور مختلفة أبسطها الإهمال.
في ظل تطور مفاهيم القيم الإنسانية التي تنظر للرجل والمرأة من منظور المساواة، وضعت القوانين التي تحمي كل الأطراف من أي اعتداء، وخصت المرأة بقوانين خاصة ضد العنف؛ لأنها المتضرر الأكبر، حيث لم يثبت إحصائيا وجود العكس، أي العنف ضد الرجل من المرأة، وفي السعودية أعلنت النيابة العامة قبل عام من الآن عن العقوبات التي تواجه مرتكبي العنف ضد المرأة من سجن وغرامة مالية، ما رفع الوعي الحقوقي لدى الكثير من الطرفين، فأصبح الخوف الآن من العقاب هو القامع لارتكاب العنف ضد المرأة أكثر من أن يكون الوعي بإنسانيتها وحقوقها.
إذن حتى يصبح المجتمع صحيا في تعاملاته الإنسانية بين الطرفين، الرجل والمرأة، فإن نشر الوعي الحقوقي أهم بكثير من تصحيح الاعتقادات القديمة التي تدور حول المرأة؛ لأن القانون قوة، وحق للجميع، وهو ما يجعل أي تصويب لمن يرى المرأة مجرد احتمال للعار، أو آلة للخدمة يأتي عن ثقة، واقتناع من المرأة نفسها، ومن ممارساتها الحرة والمسؤولة في المجتمع، وفي مختلف أدوراها في الحياة.
على النساء أن يدركن أنه حينما تساء معاملتهن في المنزل أو العمل أو الشارع، بالضرب، أو الإهانة اللفظية والجسدية، أو التحرش والاعتداء، أو الإهمال، يدركن أنه يوجد قانون يحميهن وينصفهن من هذا كله، وأنه لا يقف بينهن وبين هذا القانون إلا الخوف الذي تقع النساء ضحيته في الغالب: الخوف من تنمر المجتمع، أو اللوم من الأسرة، أو محاولة الوقوف بينها وبين إنفاذ حقها في تطبيق القانون على المعتدي من أي كيانات أقوى منها تتمثل في العائلة والقبيلة أو ذوي النفوذ.
وهذا يطرح التساؤل عن بلاغات التحرش والاعتداء بالضرب التي تصل للجهات المعنية التي تقدمت بها المتضررات: إلى أين وصلت؟ وهل تم البت فيها عاجلا دون تدخلات عرفية تحت مسميات الصلح والواسطة التي يُضغط فيها على المرأة المشتكية، وتقصى وتعزل حتى تتراجع خطوة عن التمسك بحقها المدني والقانوني تحت سلطة الرجل.
من الحلول الناجحة التي تُعزز قيمة القانون في قضايا العنف ضد المرأة، خاصة أنه وليد التطور المدني الذي تشهده بلادنا، ولنشر الوعي الحقوقي وهدم سنوات من الخوف في صدور النساء المتعرضات للعنف خلف الجدران الصامتة؛ أن يكون التشهير بالمعتدي هو أول خطوة لإنفاذ الحق، أو أن يكون العقوبة الأولى خاصة، وأن المجتمع مازال يعطي الأهمية والاعتبار للسمعة القبلية والعائلية والصورة الكاملة للرجل الذي لا يخطئ، وإن أخطأ فخطؤه مبرر لامتيازاته الذكورية التي يصطف معها الجميع أكثر من إعطائه للقانون والحقوق والإنسانية اعتبارا وأهمية.