رحاب عمر

رحاب عمر

تتجدد الحضارات ارتفاعًا وانخفاضًا بالروح الإنسانية، فتحرر الزمان وتقييده كان دائمًا متبوعًا للإنسان الحي. ولا يكون الإنسان تابعًا للزمن إلا حين تفقد الروح إنسانيتها العالية السامية. ومع ارتقاء الحضارات وزوالها ومع ما يتخلل تطورها من أحداث مؤلمة تتصف بانعدام الرحمة وشدة الوطأة على الإنسان الضعيف. هكذا يخرج الإنسان بكثير من الحِكم والأمثال الشعبية والأبيات الشعرية التي يرددها لعلها تشفي روحه، أو ترتقي به في زمن مضطرب لم يذق طعم الاستقرار منذ بدايته.

الحضارة العربية لم تكن بدعا من القول، فقد كان الشعر ديوانها الخالد، والشاعر هو ممثل الروح العربية الأبية وهو المحرر والمخلص لها من قسوة الزمن ومساوئ السلطة وتناقض الأخلاق. وهو من يقوم بنشر مبادئها وهو المثقف ذو النفس العالية ومن يضطلع لحقائق الضمير والإيمان والفضيلة العربية. وبقصائده يقوم بحارسة مرجعيات الشرف والكرم، مصيبا بألفاظه مواقع الشعور، ومثيرا بها مكامن خيال الإنسانية العميقة.

المتنبي المكنى بأبي الطيب روح البلاغة العربية الذي لم يغطه غبار الزمن، بذكراه المتجددة وبتعلق الأجيال العربية بشعره الفريد الذي ترتكز متعته على أبيات حكمية تولدت عن خبرة ومعاناة ويقين حاد ببؤس الواقع والوجود. جعلته يتعالى عن الجسد الفاني ويؤله إنسانيته بقوله: «وإني لمن قوم كأن نفوسهم بها أنف أن تسكن اللحم والعظما». إنها روحه الأبية وشخصيته الطاغية، ولذاته الأبية يرجع تألقه وافتتان الشعوب به أكثر من شعره. روحه الأبية التي لا ترضى بأي حال، فهي متطلعة إلى آفاق جديدة لا تحدها حدود المكان وقيود الزمان، محطمة بذلك كل الحتميات والأسباب.

يقول شفيق جبري: «فإذا خلد المتنبي فإن الذي يخلده إنما هي تلك الحكم الرائعة التي استفاضت في شعره، فاستشهد الناس بها بحسب ما يقتضيه مقام الاستشهاد، فكان أبوالطيب لسان حال البشر بأجمعهم».

فالفرد العربي يستقي منه في خياله ما يلهمه ويزوده على هذا الزمان، فتسير النصوص كما يقول طه حسين: «في دواخل الروح العربية تتحلى الأحلام والأفكار وتلتقطها الأقلام لتخلدها في صفحات الأدب» والقارئ له، دون وعي منه يتقمص تحدي المتنبي ودفاعه عن علو المطامح، فيستحيل اللفظ لديه تمردًا على الحقيقة القائمة. ففي تأمل المتنبي تأملًا لحال المجتمعات الإنسانية قاطبة.

ونحن اليوم، إذ نريد أن ندرس المجتمعات والحضارات، من منطور علم الاجتماع، متمثلًا في خصوصيتنا، فلا بد أن نستفيد من تجربة المتنبي الشعرية ونعتبر بها، ينبغي أن ننظر إليه من منظور علم النفس والاجتماع وتحليل شخصيته بواسطته، بعيدًا عن مذهبه وذاته، فلا نغالي في التأكيد على المحاسن منه أو المساوئ، فكل مخلوق له وعليه.

والتاريخ الشعري العربي لن نفهمه عندما نكتفي بسرد حوادثه سردًا متتاليًا من الناحية الزمنية، ونكتفي بالاستشهاد بأبياته بل بتفكيكها حتى تتشكل لنا صورة واضحة لا مجرد أبيات وأمثال نتناقلها، وبفهمها بشكل عميق ومنهجي. ففي تفسير مجتمع الشاعر وموطنه ما يرسم لنا حال عصره وموطنه وتأثيره في العصور التالية له، ما يوجهنا على فهم الظواهر الاجتماعية والنفسية. ففي هذه المناطق الجغرافية في الجزيرة العربية وما جاورها، ممكن تبين العوامل التي أثرت على الشعراء وأعمالهم، وفي مساهمتها في تشكيل الثقافة والهوية. فيتحول الشعر مصدرًا علميًا ومعرفيًا ننهل منه، لإجراء عمليات تحليلية وبحثية متكاملة، مستندة على مناهج علم الاجتماع وعلم النفس الحديث، لا مجرد مشهد ننظر إليه بين الحين والآخر.