عبير العلي

يعد القطاع الثقافي أحد الجهات التي لقت اهتمامًا كبيرًا وتغيرًا ملحوظًا مع انطلاق رؤية المملكة 2030 قبل عدة سنوات؛ فأصبح على سبيل المثال للثقافة وزارة مستقلة تفرعت منها 11 هيئة مختصة بالمجالات الثقافية المختلفة، والتي لم يسبق لبعضها أن لقت اهتمامًا وعناية وخططًا خاصة باعتبارها من ثقافة المجتمع السعودي.

وخلال هذه السنوات نرى كل هيئة من هيئات وزارة الثقافة تطرح من وقت لآخر خططها الإستراتيجية، وبرامجها المعنية بمستهدفاتها على المستويين الحالي والبعيد، نرى كذلك تفاعل الجمهور المستهدف من الهواة أو المحترفين وغير المحترفين بشكل يطمئن المهتمين بالثقافة السعودية أن وزارة الثقافة تسير بشكل جاد وهادف لجعل الثقافة نمط حياة، وسلوكًا وجدانيًا يمارس كل يوم وفي كل الهويات المتعددة المرتبطة بالمجتمع السعودي، وتجعل منه رافدًا اقتصاديًا، وقوة ناعمة يعتد بها حول العالم.

لكن مشكلة المركزية لكل هذه الجهود الثقافية هي ما يجعل من هذا الاهتمام بالقطاع الثقافي منقوصًا، ما أزعم أنه سيؤثر في مستهدفات الثقافة بشكل خاص، ويؤثر في ركائز الرؤية المهمة التي تتعلق خاصة بالمجتمع الحيوي ومدى تحقيق جودة الحياة للفرد السعودي من خلال العمل الثقافي. والمقصود بالمركزية هنا هو ما يلاحظه المهتم والمتتبع للثقافة على مدى أربع سنوات على أقل تقدير؛ فسيجد أن الفعاليات الثقافية في أي فرع من فروع هيئات وزارة الثقافة الـ11 ترتكز في ثلاث مدن كبرى بشكل متكرر، ويكون الحضور فيها على الأغلب نوعيًا ومركزًا.

فمثلا خلال فترات متقاربة أقيم في الرياض معرض دولي للكتاب، ثم معرض بينالسور الفني، فمؤتمر للفلسفة، ثم ملتقى للترجمة، والمطّلع على الأجندة الثقافية خلال الفترة القريبة القادمة سيجد عددًا من الفعاليات تقام في وقت واحد بالرياض كميدان الثقافة، وهنا السويلم، ومهرجان الفقع، وأرومة، فضلًا عن المعارض الفنية التي يقيمها أبناء مناطق أخرى في الرياض برعاية من وزارة الثقافة.

إن الكثافة السكانية، والعوائد الاقتصادية، ووجود مقار العمل الوزارية تمثل بلا شك محكًا مهمًا لوضع الخطط الثقافية وأماكن إقامة فعالياتها، ولكن حصرها على المدن الكبرى بشكل دائم وخلو المدن الأخرى من الفعاليات الثقافية تحت مظلة الوزارة، يتعارض مع فكرة تثقيف المجتمع، وجعل الفنون وجمالياتها نمط حياة لدى الفرد العادي، وأداة يمكن الوصول لها والاستمتاع بها والمشاركة فيها للفرد المهتم، وطريقة لإحداث التغييرات في سلوك المجتمع ونمط حياته، فليس كل شخص يسكن مدنًا غير مركزية يستطيع السفر باستمرار للرياض أو الدمام أو جدة لتحقيق شغف ثقافي ومعرفي تقدمه وزارة الثقافة.

هذا الأمر يعيد التساؤل عن العمل الحقيقي للوزارة هل هو تنفيذي بشكل مباشر، أم أنه تخطيط وتمكين وتحقيق للمؤشرات العامة، وهو ما يعيد أيضًا إشكالية الأندية الأدبية، وجمعيات الثقافة والفنون التي تكاد تفقد بوصلة العمل في فروعها وهي تمارس أدوارها القديمة بعيدًا عن روح وزارة الثقافة التي نراها في المركز، ويطرح إشكالية الشراكات الأدبية وأدوار القطاع الخاص والجمعيات الأهلية في تقديم الخدمات الثقافية باحترافية تشبه تلك الروح أو تقترب منها، والأهم أنه يطرح تساؤلًا عن سبب غياب فروع معتمدة لوزارة الثقافة، أو بعض هيئاتها، أو حتى مراكز ثقافية شاملة لتلك الهيئات في كل منطقة تفعل العمل الثقافي في جميع المدن بالتزامن مع المركز، وتكون مرجعًا ومقصدًا للمهتمين والمحترفين.

لقد عاشت الثقافة السعودية لوقت طويل في غربة -داخليًا وخارجيًا- واستثنيت منها فروعًا كانت تُقصى لحد التهميش كالموسيقى والأزياء، ووطنًا ينعم بتنوع هائل في هوياته الثقافية المختلفة، ويملك موردًا بشريًا مذهلًا في مواهبه، ومقدرته الثقافية الاحترافية.

والعمل الثقافي المحترف من خلال وزارة جادة وطموحة سيحقق القيمة الحقيقية للثقافة وهي أن تكون سلوكًا فرديًا قبل أن يكون اجتماعيًا، ونمط حياة عام، لا مجالات تنزع للفردانية المطلقة والبعد عن العامة.

أن تكون الثقافة أسلوب حياة يراه كل فرد في شوارع مدينته، ويصل له في مراكزها، ويعتاد عليه ويؤثر به وفيه، لا شكلًا من أشكال المركزية التي تزيد الثقافة غربة وتزيد المثقف اغترابًا مع شغفه.