حركة المجتمعات تتطور وأحيانا بسرعة فائقة، والهوة بين الأجيال المتعاقبة تتسع بشكل لا يمكن مقاومته، ولكن الشكل اللغوي الفصيح يظل ثابتا ومعياريا ومستقلا عن تعاقب الأجيال وعن حركة المجتمع الحديث، وما يعتمل داخله من تفاعلات اجتماعية وثقافية. ودون أدنى شك، عندما يتطور المجتمع فهناك منتجات ومفاهيم ومصطلحات جديدة تحتاج إلى دلالات جديدة، وهنا اللغة الفصيحة لا تتحور أو تتطور لمواكبة تطور المجتمع بل تعود لتراثها وماضيها لتستعير ألفاظا ودلالات جديدة لتقاوم التطور، فهي ترفضه بطبيعتها، وعودتها المستمرة للماضي مؤشر على حيويتها، ويعكس شدة انتماء أبنائها لها. اللغة الفصيحة عند كل شعوب العالم تعيش في الماضي وتقاوم الموت من خلال عودتها المستمرة إليه، فهي تعيش فيه وإخراجها منه يعني موتها السريع.
دعونا نقدم مثالا لأحد المصطلحات الفيزيائية الحديثة وهو مصطلح «التأريض»، ويعني «وجود اتصال مباشر بين منظومة أو شبكة كهربائية وبين الأرض». فمن متطلبات السلامة لتحقيق الأمان في المباني الحديثة وجود تقنية التأريض، التي تسهم في تفريغ الشحنات الكهربائية إلى الأرض بطريقة علمية حديثة كي لا يتعرض لها جسد الإنسان، أي أن التأريض يعني بتعبير آخر «لزوم الشحنات الكهربائية الأرض لمنع حوادث الصعق الكهربائي». وهو إن كان مصطلحا فيزيائيا في الأساس، لكنه أخذ دلالات أخرى حديثة كالسير حافيا على الأرض أو السير حافيا على رمال الشاطئ، لأنه يسهم في تفريغ الشحنات الكهربائية من جسد الإنسان إلى الأرض. وبالتالي يساعد في تحسين جودة النوم وتقليص التوتر ويمنح شعورا بالاسترخاء.
يؤكد مصطلح «التأريض» أن الشعوب تتطور اجتماعيا والتطور في البناء والعمران، وتطوير أدوات السلامة ينتج عنه نشوء مصطلحات ومفاهيم جديدة تتطلب دلالات تعبر عنها، وكي تواكب اللغة الفصيحة هذا التطور فإنها ترجع كعادتها لتراثها القديم ليسعفها في توليد الدلالات الجديدة. التأريض في الحقيقة مصطلح تراثي ينتمي للماضي البعيد، ففي أحد الكتب المهمة في التراث العربي وهو «الكامل في اللغة والأدب» لأبي العباس محمد بن يزيد المبرد، يستشهد المبرد فيه بإحدى القصائد التي يقول فيها الشاعر:
وصاحب نبهته لينهضا *** إذا الكرى في عينه تمضمضا
فقام عجلان وما تأرضا *** يمسح بالكفين وجها أبيضا
«قوله: وما تأرضا: أي لم يلزم الأرض». فالتأرض والتأريض وكلها تعود للجذر اللغوي نفسه الذي يعني لزوم الأرض. ونلاحظ هنا أن اللغة الفصيحة استطاعت مواكبة العصر ومستجداته بطريقتها الخاصة وهي العودة للتراث والماضي البعيد، وبهذه الطريقة تكتسب حيويتها، ولو امتنعت عن العودة للماضي والتراث فإنها تحكم على نفسها بالموت السريع. الشكل اللغوي الفصيح ينتمي للماضي، وإذا نزعت اللغة الفصيحة من تراثها فإنها تفقد بريقها وتعجز عن مواكبة الحياة وحركة المجتمع.