«العقلُ ليس عقلانيًا»! هذه الكلمات الثلاث ليست مبالغةً، وليست اعتباطية. نعم فحقيقة عقولنا أنها ليست عقلانية، ولا تفكر عبر منطق سليم إذا لم توجّه توجيهًا فائقًا، وبعنايةٍ دقيقة! فلو كنّا عقلانيين؛ لما نشأت مشكلات عانى منها بني الإنسان وما زالوا يعانون منها. مُشْكِلات لا حصر لها، بدءا من التطرف، والتزمّت، واحتقار المختلف، والإقصاء، والكراهية، والحروب، الاعتداء على حقوق وممتلكات الناس، وشهادة الزور، والكذب وغيرها المئات من الممارسات التي تمارسها الأمم فيما بينها، وفيما بينها وبين الأمم والمجتمعات الأخرى. لو كانَ العقلُ عقلانيًا كما نتوهّم؛ لوَصَلَ إلى أن هذه الممارسات بغيظة، وقبيحة، ولا ترتقي لمستوى التحسين بمقياس التحسين والتقبيح في علم الأخلاق! هذا العقل يعمل وفقَ ما تمّ «حشوه» به منذ الصغر، فهو لا يستطيع أن ينفكّ عما لقن إلا عبرَ رغبةٍ ذاتيةٍ مُضْنِيَةٍ، عسيرة! يأخذ المعطيات التي أمامه، والتصرفات التي يشاهدها، ومن ثمّ يتعامل معها وفقَ ما طبع عليه عندما كانَ طفلاً! فمثلًا، المسلم سيأتي بتصرفٍ مغايرٍ عن تصرف الهندوسي فيما لو وقعا في المشكلة ذاتها؛ كلٌّ منهما سيتصرف وفقَ ما غذي عقله بهِ عندما كانَ طفلًا، ولن يتعاملا مع الموقف المشترك ذاته، وفقَ معطيات العقل الحقيقية؛ ولن يستطيعا أن يستخدما منطقًا سليمًا للتصرف بأفضلَ مما قاما به!

خذ مثالاً آخرًا، رجلان من ثقافتين مختلفتين؛ أحدهما من أمريكا اللاتينية؛ والآخر من شرق آسيا؛ تعرضا لموقفٍ في منتصف الليل للتعامل مع امرأة تحملُ بعض النقود، أحدهما سيعتبر الموقف فرصةٍ لسرقةِ هذا المال، أمّا الآخر فسيرى الموقف فرصةٍ لعملِ الخير في مساعدة هذه السيدة إلى أن تصل لمنزلها بسلام! مثال ثالث، شاب يافع، متطرف دينيًا، خرجَ يتسكّع بالشارع آخر الليل في مكانٍ يمر بقلاقل طائفية؛ وشاهدَ عجوزًا من ديانةٍ مختلفة يمشي ببطءٍ على عصا، هذا الشاب المتزمت، سيرى أن من العقلانية «اقتناص» الفرصة لإنهاء حياة هذا الشيخ العجوز! لماذا؟ لأنّ ما تم حشوهِ به و هو طفلٌ صغير؛ أن من كانَ مخالفًا لك في الدين، والعقيدة؛ فهو بالضرورة يستحق الموت، وهذا ما فعله هذا المتطرف!

بينما شابٌ آخر نشأَ على تعاليم بوذا التي تدعو للسلام، ونشر المحبة، وتقبل الآخر، فإنَّهُ سيرى الموقف فرصةً لإثبات ما لقنه وهو طفل، سيأخذ بيد العجوز إلى حيثُ يريد. أين تحكّم العقل في تصرفاتنا كبشر في مثلِ هذه المواقف؟ العقل تصرف وفقَ معطيات وتعليمات وعقائد شحن بها قبل أن يكتملَ، فيقرر كيفية اتخاذ القرارات العقلانية! العقل غير عقلاني؛ والشعوب للأسف الشديد لا تريد تصديق هذه المقولة فتتنفّس الصعداء من خطابات الكراهية، والإقصاء، والاستعلاء! فالشعوب دائمًا تريد أن تبقى تتوارِثَ تخلفها، ورجعيتها، التي تُطْلِق عليه «تراثا»! يا لتعاسة البشرية!