تراثنا الفلسفي هو مجموع ما وصل إلينا من نظريات في المنطق والطبيعيات والإلهيات، ما زالت تؤثر في سلوكنا اليومي، وتحكم تصورنا للعالم، وتعطينا موجهات للسلوك، وتكون أحيانا الجذور التاريخية لأزماتنا ومآسينا وعثراتنا في قضايا التقدم والتغير الاجتماعي. فهو تراث حي، يسعى في الأسواق، تستعمله السلطة الدينية والسياسية من أجل التثوير والتغيير أو من أجل إيقاف مسار التقدم وحركة التغير الاجتماعي. وإن كان هذا الاستعمال في كلتا الحالتين سطحيًا لا يمس إلا هامش الشعور القومي من خلال أجهزة الإعلام التي لا نحظى إلا بقدر ضئيل من مصداقيتها. ومن هنا كانت نسبته لنا بضمير المتكلم الجمع في «تراثنا» إشارة إلى فعله فينا، وخضوعنا لأثره. وقد تكون «الكتب الصفراء» بمضمونها الذي تحتويه عن طريق التواصل التاريخي والتراث الحي أكثر أثرًا في حياة الناس من الكتب الملساء حتى ولو كانت أمية لا تعرف القراءة، أو تعرف القراءة ولكن لا تطلع عليها، أو عرفت القراءة وتطلع عليها ولكن لا تفهمها إلا على نحو مدرسي، من أجل إلقاء دروس العصر في المساجد أو محاضرات في الجامعات.

ليس المطلوب منا بحثًا علميًا في التراث بل المطلوب بحث وطني وقومي.

فالبحث العلمي بدعوى التنزيه عن الغرض والدقة المتناهية والنظرة الموضوعية أسطورة نشأت في الغرب من الرغبة في التخلي عن التراث، بعد أن كانت مملوءة بالأهواء والانفعالات، واستحالة لا ينكرها إلا متجن على الحقيقة راغب في إخفائها أو لويها. تستحيل هذه النظرة العلمية المدعاة التي تبغي الفصل بين التراث وموضوعها لأن التراث جزء منا ونحن استمرار له.


هو المنبع ونحن المصب. علاقتنا به علاقة خصوبة ونماء لا علاقة موت وجماد.

ولما كان تراثنا الفلسفي معاشًا فهو تراث مؤول، يوحى إلينا بمعانٍ قدر ما نوحى إليه بدلالات. نسقط عليه احتياجاتنا ونقرأ فيه أنفسنا. تأويل التراث طبقًا لحاجات العصر هو إذن استمرار له في أحد معانيه، وارتكاز له على أحد جوانبه في لحظة تاريخية معينة، وطبقًا لمشروع جيل واحد، قد يتغير هذا التأويل طبقًا للحظة تاريخية أخرى، وطبقًا لمشروع جيل آخر. وبالتالي فإن معرفة قضايانا الأساسية واللحظة التاريخية التي نعيشها وتحديد مهمة جيلنا هي بداية فهم التراث.

التراث إذن هو المنقول إلينا أولا، والمفهوم لنا ثانيا، والموجه لسلوكنا ثالثا.

وتراثنا الفلسفي بالمعنى الدقيق يقتصر فقط على هذا اللون من التفكير الذى بدأه الكندي 252هـ، وسار فيه الفارابي 339هـ وابن سينا 428هـ، وأكمله ابن رشد 595هـ، إضافة إلى ابن باجة 533هـ شارحًا الفارابي، وابن طفيل 581هـ شارحًا ابن سينا في المغرب.

وهو نفس اللون الذي ألف فيه أبو بكر الرازي 313هـ، وأبو البركات البغدادي 547هـ وغيرهم ممن تناولوا علوم الحكمة المنطقية والطبيعية والإلهية. ويخرج منه علم أصول الدين، وعلم أصول الفقه، وعلوم التصوف. والكل يدخل في تراثنا الإسلامي القديم على الرغم من اشتراك بعض مسائل هذه العلوم مع مسائل الحكمة.

ولا يهمنا نقد التراث بقدر ما يهمنا تطويره عن طريق تنقيته من شوائبه، وتطهيره من أدرانه التي يظنها جيلنا معوقات لتقدمه وعقبة في سبيل ارتقائه. لا يهمنا النقد الأكاديمي للتراث القديم، فالتراث منقول وطني قومي شعبي، بقدر ما يهمنا النقد الاجتماعي لواقعنا المعاصر الذي ترى التراث حيًا فيه. مهمتنا إذن رصد محاوره الأساسية، وبيان موقعنا منها، وكيف يمكن الاستفادة منها سلبًا أو إيجابًا، سلبًا عن طريق رفع عثرات التقدم في تصوراتنا للعالم ومقولاتنا الفكرية، وإيجابًا عن طريق اختيار بدائل جديدة تكون أكثر عونًا لنا في إعطائنا تصورات وقوالب جديدة أكثر فاعلية في التأثير، وأكثر موضوعية في الفهم. وربما كانت السلبيات بالنسبة لنا الآن، نحن الخلف، إيجابيات بالنسبة للسلف، وربما كانت الإيجابيات بالنسبة لنا سلبيات بالنسبة لهم. ومن ثم لا يوجد حكم عام على التراث شامل خارج الزمان، بل هو حكم أجيال متعاقبة يطور بعضها بعضًا طبقًا لحاجات العصر، ودفاعًا عن مصالح الأمة، كما كان يفعل الفلاسفة الفقهاء أمثال ابن رشد.

1980*

* باحث وأستاذ فلسفة مصري «1935-2021».