ما زلت أذكر دهشتي وأنا طالب في كلية الشريعة أوائل تسعينات القرن الماضي مستمعاً للدكتور الفاضل: أحمد الذروي أستاذنا في علم أصول الفقه وهو يستفتح أولى محاضراته بتذكيرنا أن مهمة الأستاذ الجامعي ليست سوى إعطاء (مفاتيح بسيطة) لأبواب العلم، كل حسب تخصصه، ومهمة فتح الأبواب تعود لطالب العلم، ثم يعيد بصوت مسموع تذكير نفسه: حتى الدكتوراه التي أحملها لا تعطوها أكبر من حجمها فليست سوى رخصة تشبه رخصة قيادة السيارة تؤهلنا لإعطائكم هذه المفاتيح، ولهذا فقيمة هذه الرخصة تقاس بمدى قدرتي على تمكينكم من مفاتيح علم أصول الفقه، وبدون ذلك فلا قيمة، أما العلم فبحر واسع.... كان مذهلاً واستثنائياً في تمكنه وعلمه وتواضعه النبيل، وهنا يطرأ تساؤل عن علاقة أصول الفقه والدكتور الجليل أحمد الذروي بكتاب (أين ذهب كل المثقفين) لمؤلفه فرانك فوريدي الكندي ومثله كتاب (نظام التفاهة) لآلان دونو الكندي أيضاً، فكلاهما رغم اختلاف التخصصات يخرجان من نفس ضئضئ (البرجوازية الفكرية) الذي حاولت تفكيكه في مقال سابق بعنوان (البرجوازية عندما تؤلف وتكتب).
الإجابة على سؤال الرابط بين ما عشته مع الدكتور الذروي وعلم أصول الفقه هو أن النموذج الحي الذي رأيته في إخلاص الدكتور الذروي لعلم أصول الفقه هو ما جعلني أميز أثناء دراستي في كلية الشريعة نوعين من الأكاديميين: الأول أمثال الدكتور أحمد الذروي الأقرب لمعنى (العالم) وفق شرط ماكس فيبر في كتابه (رجل العلم ورجل السياسة)، والنوع الثاني الغالبية من متعددي الأنشطة التي تبدأ بحرصهم الشديد على كل ما فيه زيادة (النفوذ الاجتماعي) في جوع المناصب وتعدد الألقاب مثل (الشيخ الدكتور الواعظ الداعية الناظم وبتصويت الدهماء يصبح الناظم شاعراً... الخ)، يكفي كنموذج حي للشعبوية باسم العلم الديني هو الأعداد الغفيرة التي ما زالت ترى وتسمع وتتابع من ثبت بحقه سرقة كتاب مقابل الأعداد القليلة جداً التي تعرف العالم الجليل أحمد الذروي، ولهذا فإن من طبيعة العلم الحقيقي أنه (نفيس) على العوام، ويعرف الدلالات المضمرة في كلمة (نفيس) كل من عاش فترة ما قبل الإنترنت، حيث كنت وجيلي والأجيال التي قبلنا نسافر إلى بلدان ودول أخرى بحثاً عن الكتب رغم وفرة المكتبات، وعند عودتنا نعيش معها قلقاً أشبه بقلق (تهريب الممنوعات).
أخيراً.... طريق الشهرة شيء وطريق الثقافة شيء آخر، فالرغبة في الشهرة والحضور لا علاقة لها بالفاعلية، وما أكثر من يخلط بينهما، (الفاعلية الثقافية) تتكئ على (سلطة المعرفة) وليس على (معرفة السلطة)، على (المعرفة) في ذاتها كغذاء ثقافي تميزه العقول الراشدة، وليس على (مهارة) التسويق لها كمشروبات غازية وشيبس للعقول المراهقة، فمن ذا الذي يسوق لأفلاطون وأرسطو قبل الميلاد وحتى الآن!؟!!، من ذا يسوق للجاحظ أو ابن المقفع قبل قرون وحتى الآن!؟!! والطريق الثاني طريق الثقافة مع ما فيه من تقلبات زمان وأحوال (قد) يضيع فيها مفكر عربي قدير بقامة (رجب بو دبوس)، لأنه ربما لم يراع المسافة الآمنة من نار السلطة في ليبيا زمن القذافي، ربما أراد دفئها (راهباً أو راغباً) فأعطى بعض جهده في (النظرية الثالثة للكتاب الأخضر)، فاحترق آخر عمره رغم أهمية كثير من مؤلفاته الفكرية والفلسفية، فالغالب على شعوبنا عدم التفريق بين هايدغر وهتلر، بين ماركس وستالين، بين تشومسكي وجورج بوش، بين أدونيس وحافظ الأسد، بين عبدالرزاق عبدالواحد وصدام حسين، فما أسهل تمرير الضغينة والحسد (الثقافي/الفكري، الفني، الشعري) تحت دواعٍ سياسية عمياء، ولهذا لا زلت أؤمن وأعتقد وأجزم بأن من واجبات المثقف النقدي في العالم العربي أن يصنع مسافة آمنة من الجماهير، فالاقتراب اللذيذ المسكر سيجعله يرتكب خطيئة الشعبوية في حق نفسه ليتحول إلى سوفسطائي أيديولوجي بكل ما في دلالاتهما من سلبية، أو عليه بطريق سقراط في شرب السم راضياً وبصدر مفتوح إذا لزم الأمر.
غريزة الدهماء وكما قلت قبل عقد ونصف في كتاب «حجامة العقل»: (هي اليورانيوم المخصب للتعصب، وفيها تزدهر الخرافة، ومنها وإليها تتقرر مصائر الفلاسفة والمفكرين والأحرار)، أما السلطة فالأمر معها سهل وبسيط ومعادلتها واضحة: كن زاهداً في مغانمها ولن تزعجك كثيراً بمغارمها.