في القرية كنا جميعاً الصغير والكبير نأكل من صحن واحد ونشرب من طاسة واحدة، لا نعرف الأطباق والكؤوس والطاولات. كانت معيشتنا مختلطة بالحلال والنبات والدواجن. كل شيء له طعم الحياة.

الحياة التي لا تفسير لها غير الحركة، والبحث عن ثمرات العمل اليومي.

ينقضي فصل، ويباغتنا آخر، فنجعل لكل يوم حساباً، ولكل أزمة توقعاً، لم نكن ننتظر تصاريح الصحف، وأنباء الإعلام.


لقد كانت حياة يفتقد فيها الغائب، وإذا كان أحدنا لم يحضر صحن الطعام الوحيد الذي يجمع الكل.. يُفْرَزُ له حسابُ ربما كان يقتطع من حصة الآخرين الحاضرين.. إنه قانون لم يشرع على الورق، ولم يدرس على أيدي مدرسي سلوكيات الموائد.

الجميع في القرية، يقفون على الغريب الذي يجيء برأس عالية عليهم، فيسقطون تميزه، ولا يجد له حليفاً. تلك المعاملات وغيرها ليست بقاصرة على أولئك القوم، إنها تتشابه في مواضع متقاربة، وتتشابه في أخرى متباعدة، لكن البصمة المختصة بالمخزون الاجتماعي التاريخي الطويل تبقى ذات خطوط تقول، هذا العالم له هذه السحنة. السحنة المتميزة بتقليدها وعقيدتها وصفة علاقاتها بطبيعتها وأدوات حياتها.

في القرية، كانوا لا يخشون اللومة في ذكر الحق وأمام الجميع. في ساحة مسجد الجمعة كانوا بعد الخطبة المعتادة والصلاة يقعدون وقتاً يسلمون على بعضهم، ويقبلون فلاناً القادم من السفر، ثم يطرحون قضيتهم ويتشاورون.. يتجاورون.. يقررون بصوت واحد، ويسمعون قول المعترض، فيأخذون به أحياناً، أو يرفضون.

لم يكن هناك مجلسُ برلماني بدفاتر ضبط ولا نيابية ولا مضخمات صوت.. كان هنا دستور عرفي مقنن معلوم وضعوه بمعرفتهم وحاجتهم وظروفهم.

الكل يقول للمعتدي: أنت تهضم حق الضعيف وتنبذ الآخرين.

إن من أعمدة التماسك الاجتماعي في أولئك القوم هي تشابههم إن لم يكن تطابقهم في مستوى المعيشة، مما رفع المستوى التعايشي.

الكل يحتاج للآخر، والآخر لا يستطيع أن يحيا دون حماية الآخرين. تلك الحماية الإنسانية المتكافلة الآمنة، وليست حماية الحد والعصا، تلك التي لا مناص عنها أمام يد الغريب، بل الحماية التكافلية المباشرة.

لم يكن للفقير واليتم والأرملة والضعيف، ولكل المواطئ الهابطة عن نظرة المستوى الاجتماعي التقليدي..

لم يكن لهؤلاء حق ناقص قياساً بالآخرين.

كانت المرأة تقعد في مجلس القوم، وتعرض أمرها مع الآخرين الذين يريدون النيل من حقها الزراعي أو غيره فيقومون كلهم بوضع الحق عليه، وأخذ ما اقتطعه لم يهزمهم أو يصادر دستورهم ورأيهم، إلا أيد من خارج المحيط المحدد بأعرافهم.

إنني لا أستطيع أن أكون دارساً إنثربيولوجياً ومحللاً اجتماعياً، لكي أفند فتافيت الحياة القروية المتلازمة، ربما كنت أقول قولي بحلولي الكتابية، في إطار الأعمال الإبداعية القصصية والروائية.

لقد جعلني ذلك السؤال التقليدي.. أندفع إلى الكشف عن بعض تفاصيل الإبداع الكتابي المرتبط بعالم القرية، وبعالمي الطفولي الذي يقودني بألفته وبحميمة الكتابة عنه.. بدءاً من بيت النشأة وبتفاصيله الحياتية وبتآلف وحدتها في السعادة وفي الضجر.

ولعلي تطرقت وبصفة مركزة حول كلمة «الحميمية» التي لا أجدني أبداً- وربما كان هذا عيباً- أكتب دون أن تكون أحد مكونات دوافع الكتابة الأساسية، في كل فتافيت كتابتي.

لقد جربت أن أحاول الكتابة عن أشياء لا تربطني بها، حميمية أو تعاطف ما، فخرجت فاشلاً أو قل غير.

بالطبع لا أعني الرضى الكامل، أو شبه المقنع بمسرته الصغيرة التي تدفع نحو إبداع مستمر، وإنما أعني اللذة النصوصية المعمرة بجوهر الفعل الحقيقي للموضوع الكتابي.

إننا حين نكتب عن أشيائنا الصغيرة في حياتنا.. نحس بالخجل نحوها، وأحياناً بعدم الاستحقاق، وبالنقصان في أحابين أخرى، مما يبطل مفعول القيمة الاستمرارية في إكمال بعض كتاباتنا.

ولا أريد أن أبين مدى اللب الكتابي الذاتي الذي نكتب من أجله.. فتلك مسألة لم أقصدها، فالكتابة بهذا المنظور الذي يجعل من الكتابة في إطار الهم الخاص. تبقى بعيدة عن افتراضية التحام القارئ بالمعطى الكتابي، وهنا تفقد الكتابة فاعليتها الحقيقية في مخاطبة وجدان القارئ.

ما عنيته بالذات تلك المنطقة الرحبة والمحصورة في آن، بين التعبير عن ظواهر الأشياء أنسنتها.. فحين نكتب عن حفرة جدار البيت الذي عشنا فيه مثلاً فإننا لانكتب عنه- وهو يشدنا بحميميته- من أجل تعبئة الهيكل الكتابي بالتفاصيل، بل لأنه يعني شيئاً مهماً في ذاكرتنا..هنا نحن نكتب عن علاقتنا الإنسانية به.

العلاقة البالغة الألفة.

1992*

* روائي وصحافي سعودي «1955 - 2000»