الحرية، في العمل الفني عندي أكثر من ذلك. بمعنى أن وجود العمل الفني نفسه هو حرية، حرية في الاختيار، وحرية في البناء. وهي حرية تلقى على عائق المتلقي عبئاً آخر من الحرية، ومن هنا تنتفي المقولة الشائعة عن أن الحرية المطلقة هي الانفلات والفوضى وانعدام القانون.
لا وجود للحرية إلا إذا كانت مطلقة، في الأساس: منطلقاً، وطريقاً، وهدفاً، على السواء.
الحرية مطلقة أو يجب أن تكون مطلقة. صحيح في النهاية أن إطلاقيتها هذه قانون متضمن ومضمر، يلهم العمل الفني كله، ولكنه خفي، وبالتالي هو مسؤولية من غير أن تكون فرضاً، وهو اختيار وليس إلزاماً من الخارج، ولا انصياعاً لقيود مصنوعة من سلطة أخرى غير سلطة الفن نفسها.
لكن إذا كانت هذه هي شروط قيام العمل الفني، بالحرية، وفي الحرية، أي في داخل الحرية، فإن شروط ازدهار تلقي هذا العمل الفني وتوافر الاستجابة له هو مناخ الحرية في الثقافة، وفي المجتمع بشكل عام، وهو المناخ الوحيد الذي يجب أن يكون سائداً دون أدن تحفظ.
ذلك المناخ لا يوجد إذن إلا بالحرية القائمة على احترام الآراء الأخرى، أي أنها حرية قائمة على تسييد الحوار والعقل وليس على الانصياع لمتطلبات آليات القوى النفسية المدمرة: قوى ظلامية التعصب وتأكيد الذات في نوعٍ من العمى عن وجود الآخر وعن نور التسامح.
من الواضح أن آليات القهر والقمع آليات ليست داخلية فقط وإن كانت جوانيتها من شروط قيامها، أي إن آليات السلطة الخارجية البرانية (بأكثر من معنى) تعمل عملاً أساسياً هنا (كما أن آلية الحرية ليست داخلية فقط) الآليات العميقة - آليات الكبت والزمت والخوف والتحسب والتحوط والهرب هي آليات نفسية وجوانية.
لا بد عندي، إذن، أن تتضافر آليات الداخل والخارج، النفس والمجتمع، آليات النص المفتوح والتلقي
الحر كلها لكي تضع اللبنات الأولى والأساسية لحرية الثقافة والإبداع، بل لوجودها الحق.
نتيجة ذلك فإن المبدع المفكر الحر عليه أن يدفع الثمن دون تردد. ربما كان فشل الجهود التنويرية التي استغرقت منا ومن ثقافتنا سنوات هذا القرن كله، وسقوط مشروع العقلانية والحوار المفتوح، راجعين لنكوص كبار الذين تصدوا لهذه المهمة الفكرية عن التمسك بالحرية بكل معانيها، وقبولهم التنازل مرة بعد مرة مما يكاد يفضي بنا، الآن، إلى براثن الظلامية والردة الحضارية.
1989*
* كاتب وروائي مصري «1926 - 2015».