منذ نزول القرآن الكريم والمسلمون يحاولون فهم آياته وتدبر معانيه دون الاعتقاد بوجود مجاز أو معانٍ حقيقية تقابلها معانٍ مجازية غير حقيقية. فلا وجود واضح لمفهوم المجاز أو الاعتقاد بوجود مستويين للغة البشرية -حقيقي ومجازي- في الثقافة العربية حتى زمن نشأة فرقة المعتزلة الذين أثاروا قضية المجاز وأشاعوا مصطلح المجاز في بيئة الدراسات القرآنية.

والمجاز هنا لا نقصد به الاستعارة، فالاستعارة لا تخرج عن دائرة التشبيه، فهي مجرد وظيفة لغوية تتطلب وجود مشبه ومشبه به وقرينة تربطهما ببعض، وسواء كانت هذه الاستعارة كثيرة الاستعمال وعلاقتها قريبة أو كانت نادرة الاستعمال وعلاقتها بعيدة وتصورها غريب، ولكنها لا تخرج عن محيط الحقيقة التي تفهم بالتبادر الذهني. والتشبيه وظيفة لغوية يومية موجودة في أدنى مستويات اللغة، لغة المنزل والشارع والأصدقاء، كما أنها موجودة في المستويات الرفيعة للغة، الأدب والشعر والخطابة، ولكنها لا تقسم اللغة إلى مستويين «حقيقي ومجازي» ولا توجب قلب المعاني وتحويرها من معنى لآخر.

اللغة البشرية لا تحتمل وجود المجاز وليست لها مستويات حقيقية وغير حقيقية. وجدلية المجازي والحقيقي لا تختلف عن جدلية الباطني والظاهري، وكلا الجدليتين مجرد معتقدات دينية قديمة تفترض أن النصوص المقدسة مكتوبة بلغة سرية وخفية بعيدة عن إدراك البشر العاديين ولا يستطيع فك رموزها وألغازها والخوض في أسرارها سوى فئة مصطفاة من البشر يتمتعون بالقدرة على استبطان المعاني الخفية للنصوص واستلهامها. ومثل هذا الاعتقاد لا وجود له حقيقة في الثقافة العربية القديمة، فهي ثقافة دخيلة على العرب والمسلمين الأوائل. فالعجم كان لهم الدور البارز في إدخال المصطلح للثقافة العربية وتأصيل الظاهرة عن طريق ربطها قسريا بلسان العرب، ولكن دون إلقاء الضوء بالقدر الكافي على تعريف المصطلح تعريفا محددا أو دون وضع الحدود التي تفصل الحقيقة عن المجاز، فظل المصطلح مبهما وغير واضح بما يرقى به إلى مستوى المصطلح العلمي.


للفرق الدينية ذات الأصول الأعجمية التي عاشت في المجتمع العربي - كما أشرنا سابقا - أثر كبير في إشاعة المصطلح والدفاع عنه لأنه يحمل منفعة عظيمة بالنسبة لهم، فالمجاز أداة يمكن أن تعطي أجوبة لكثير من العقائد الدينية القديمة التي ورثوها من أسلافهم، وعن طريق المجاز يمكن توجيه بعض الآيات التي لو حملت على ظاهرها لطعنت في أصول عقائدهم ومبادئهم، وبالتالي كان المجاز مخرجا لكثير من المتشابهات التي يمكن أن تقدح في عقائدهم، وأضفوا عليه ميزات أدبية رفيعة باعتباره أعلى درجات الفصاحة، وأصبح كل مجاز استعارة وأخذ يدخل حيز البديع ويعامل وكأنه جزء أصيل من البلاغة العربية ومظهر من مظاهر الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم.

المجاز مفهوم ديني مرتبط بعقائد دينية قديمة يفترض وجود مستويين للغة (مجازي وحقيقي) أو (باطني وظاهري) ولغتنا البشرية لا تحتمل أكثر من مستوى وليس لكلامنا غير مستوى الحقيقة ومستوى الظاهر، وبالتبادر الذهني نستطيع التواصل لغويا مع الآخرين، وحين يفشل المخاطب في توصيل المعنى الحقيقي للمتلقي فهناك فشل في التواصل وعجز في اللغة، والفشل في التواصل له أسبابه ومسبباته التي لا تعني وجود مجاز أو معنى باطني في اللغة، فالمجاز في حقيقة الأمر ليس إلا محض أسطورة.