في البداية، كانت هذه مجرد نصائح يلقيها أبي عليّ كلما لاحظ استغراقي في قراءة بعض الكتب التي تحويها مكتبته الصغيرة، والتي تهرأت من كثرة ما قلب فيها وأعارها لصحابه. لكنها - النصائح - تحولت إلى حرب حقيقية ضد الكتاب الأدبي بوجه عام، حينما حالفني سوء الحظ بالرسوب في امتحان السنة الثانية بمعهد المعلمين العام. كان يوماً عصيباً يوم بلغته النتيجة: في سورة الغضب العارمة اندفع يجري نحو الداخل فظننته يبحث عن سكين يذبحني بها، وكم كانت دهشتي عظيمة حين رأيته يفتح الدولاب الغائص في الحائط، وينتزع منه أكواماً من الكتب الثمينة الحميمة التي اشتراها بحر ماله وأنفق في الاستمتاع بقراءتها معظم سني عمره: روايات تاريخ الإسلام لجورجي زيدان، مسرحيات شوقي، مجلة أبو للو، مجلة الرسالة، ومجلة الهلال، ومجلة المقتطف، كتب المنفلوطي بعبراته ونظراته، عبقريات العقاد، ألف ليلة وليلة، السيرة الهلالية وسيرة عنترة وسيرة حمزة، البهلوان، البيان والتبيين والبخلاء للجاحظ، ومقدمة ابن خلدون وأدب الدنيا والدين للحسن البصري، وغيرها من الكتب التي طالما عشقت رائحة ورقها العتيق الضارب إلى الصفرة وحروفها الحادة التقاطيع وبراويز تفصل بين المتن والهامش وطريقة صف الحروف بأشكال هرمية مقلوبة. كوم كل ذلك في حوش الدار وهو يلهث ويتعثر في قبقابه الخشي، ثم- بكل بساطة- أشعل فيه النار وهو يهذي: «مالي أحد شريكي؟ ! أحرق مالي وعمري والسبب هذا الوغد السافل الذي لم يقدر كفاحي من أجل تعليمه! ضياع الكتب وإن كانت عزيزة أفضل من ضياع ابن ولو كان بليداً ساقطاً»!
صحيح أن أبي قد أشعل النار بطريقة فنية بارعة أخمدت اللهب قبل أن يتعدى كتابين أو ثلاثة من الكتب -المهترئة. وصحيح أيضاً أنه استجاب لمن أبعدوه عن النار ليقوموا بإطفائها، بل الطريف أنه صرخ فيهم حينما حاولوا إطفاءها بالماء ونصحهم باستخدام التراب ليسهل تنفيض الكتب الناجية.. إلا أن المشهد في حد ذاته كان مروعاً، وكان كفيلاً بوضع المتاريس بيني وبين الكتب الأدبية طوال سني الدراسة على الأقل؛ لكنني تعلمت طرائق كثيرة لإخفاء الكتاب الأدبي عن الأعين. العقدة كلها كانت في غلاف الكتاب ذي التزاويق المبتذلة، فكان لا بد من تغليفه وتغليف الكتب كلها بورق الجرائد. على أن سمعة الكتاب الأدبي قد ساءت تماماً في بلدتنا حينما فشل ثلاثة من أبنائها في الدراسة فشلاً ذريعاً، وقد تصادف أن ثلاثتهم كانوا من هواة قراءة القصص والروايات والأشعار وكنت على رأسهم. كنا سبباً في أن الآباء في بلدتنا قد حرموا على أبنائهم قراءة مثل هذه الكتب؛ إلا أن هذا التحريم- شأن كل تحريم- كان أكبر حافز للأبناء على البحث عن مثل هذه الكتب لمعرفة أسرارها ولماذا هي تشغل الطالب عن دروسه؛ ففي الشهور الطويلة التي مكثتها في بلدتنا بعد الفشل الدراسي كنت لا أكف عن إعارة واستعارة الكتب الأدبية؛ بل بفضل هذه الكتب كنت أتعرف كل يوم على أصدقاء جدد سرعان ما أشعر نحوهم بالألفة والحميمية؛ إذ كنا جميعاً نمارس هواية مخيبة سيئة السمعة.
حقيقة الأمر بالنسبة لي على وجه التحديد كنت قد أصبحت ممن تنطبق عليهم عبارة: «الذين أدركتهم حُرفة الأدب». وللعلم فإنها بضم الحاء لا بكسرها كما هو شائع. ومعناها أن الأدب يصرف الإنسان عن كل شيء ما عداه، فينسى الإنسان أمور حياته لأنه يكون قد انحرف باهتمامه عن المسار العملي الذي يجيء منه الرزق؛ إلا أن العامة كسروا حرف الحاء فحولوا الأدب إلى حرفة قرينة للبؤس والشقاء فلم يذهبوا بعيداً عن الحقيقة.
1990*
* روائي وصحافي مصري «1938 – 2011»