لا بدّ بدايةً من التشديد على الإنجازات الجليلة لتيّار الاستشراق في التعريف بالشرق، وأثر هذا الاستشراق في النهضويّين العرب، الذي أتى في بعض وجوهه، بحسب د. عبد الإله بلقزيز في كِتابه «نقْد الثقافة الغربيّة - في الاستشراق والمركزيّة الأوروبيّة»، «من طريق توفيره خدمةً علميّة لِمن يبتغون البحث في تراثهم من النهضويّين» (2017، ص15)؛ بحيث تجلّى ذلك في المرحلة الحداثيّة التي نضجَت فيها المناهج العِلميّة والحقول المعرفيّة المُختلفة من التاريخ إلى الجغرافيا، ومن هذه إلى الفلسفة والآداب والدّين والسوسيولوجيا والأنتروبولوجيا وغيرها.
المُجتمع المُتجانس
في المقابل لا يخفى ما كان لتيّار الاستشراق المزوَّد بسلاح عقلانيّة الحداثة، من مرتكزاتٍ استعلائيّة وفوقيّة حيال النظرة إلى الآخر، الشرقيّ عمومًا والإسلاميّ والعربيّ خصوصًا. استعلاء وفوقيّة مَن يَمتلك السلطة/ المعرفة بالمفهوم الفوكويّ (نسبةً إلى ميشال فوكو) الذي استند إليه إدوار سعيد بشكلٍ أساسيّ في قراءته لتمثّلات هذا الاستشراق، والذي يُخوِّلُ مالِك السلطة/ المعرفة «تمييع المعايير» الخاصّة بالنُّظم المعرفيّة والتعليميّة؛ وهي معايير شكَّلت آليّة معرفيّة استند إليها الأكاديمي الإيراني حميد دباشي، مُستفيدًا من مفاهيم ثيودور أدرنو وماكس هوركهايمر حول «صناعة الثقافة»، وفكرة جان بودريار حول «الكتابة التلقائيّة للعالَم»، أي انحلال العالَم في زمن مبكّر عبر استنساخ الواقع، وإفناء الحقيقي عن طريق تبنّي بديله المُستنسَخ، وصولًا إلى فكرة جان فرنسوا ليوتار حول «شرْعَنَة المُغالطات» Paralogy (راجع حميد دباشي، ما بعد الاستشراق: المعرفة والسلطة في زمن الإرهاب، ترجمة باسل عبد اللّه وطفه، 2015، ص284 - 285).... وغيرها من مفاهيم بعض الفلاسفة الغربيّين وأفكارهم، الذين فَكّكوا المنظومة المعرفيّة الغربيّة الحداثويّة.
وقد استفاد مفكِّرو النظريّة ما بعد الكولونياليّة أمثال إدوارد سعيد وحميد دباشي المذكورَيْن من هذا التفكيك ليقوموا بدَورهم بتفكيك مختلف الثنائيّات المغلوطة التي أنتجتها الحداثة في ما يخصّ العلاقة بالآخر الشرقيّ، عربيًّا كان أم إيرانيًّا، أم صينيًّا، أم هنديًّا...إلخ، وعلى قاعدة رفْض «الجوهريّة الثقافيّة» والثنائيّة الخادعة للغرب والشرق، وللغرب والإسلام، والشمال والجنوب... المولودة من رَحَم منطق القوّة والسلطة للذات الغربيّة مالِكة المَعرفة. فاجترحَ العالِم الهندي البريطاني هومي. ك. بابا، الذي اعتُبر، هو وإدوارد سعيد وغياتري سبيفاك، «الثالوث المقدَّس لنظريّة ما بعد الكولونياليّة»، مفهوم «الهجنة»، كتعبيرٍ عن «حركة ترجمة تُبقي أسئلةَ الهويّة والانتماء مفتوحةً دومًا على التفاوُض، وعلى أن تُطرَح من جديد، ومن مكانٍ آخر، أو زمنٍ آخر، وتغدو سيروراتٍ تكراريّة استقصائيّة لا تعيّناتٍ أوامريّة، ثابتة ومُسبقة (...أي) فنّ العيش في الفرجات الخلاليّة والسطوح البيْنيّة، بحيث لا يكون للانفتاح ذلك المعنى السطحيّ الذي يُشير إلى عدم وجود انغلاق وإلى ذوبان الهويّة والانتماء، بل يكون له ذلك المعنى الذي ينطوي على المُراجعة وإعادة النّظر والبناء من جديد، في الحاضر الذي يمثِّل عَيْشُهُ فنًّا قائمًا بذاته، فنًّا يُقيم الفارق بين التكرار واختلاف المُماثِل من جهة، والتجانس والمُجتمع المُتجانس من جهةٍ أخرى، ويَكشف أنّ هذَيْن المفهومَيْن الأخيرَيْن جزء من عتاد تلك الثقافات التي تَضْطهد الآخرين» (هومي. ك. بابا، موقع الثقافة، ترجمة ثائر ديب، القاهرة، المشروع القوميّ للترجمة، 569، المجلس الأعلى للثقافة، 2004، ص18).
احذَروا منّا لا نريد لكُم الخير
يأتي استحضارُ هذا الكلام في مجمله للقول إنّه بالرّغم من كلّ الإنجازات الفكريّة والمعرفيّة لتيّار النقد ما بعد الكولونيالي أو لنظريّة ما بعد الكولونياليّة، وقوّة حضورها في الغرب نفسه، على اختلاف مشاربها وتيّاراتها وتلويناتها، ما زال «الشرق» منظورًا إليه من خلال يقينيّات «استشراقيّة» تُكرِّس النظرة الدونيّة إليه، وضمنًا للعرب والمُسلمين، وبما يَسمح بالكلام على تمثّلاتٍ عصريّة للاستشراق ما هي إلّا وليدة «القراءة غير الموضوعيّة» له على حدّ تعبير حميد دباشي، لكونها «تحيل النقد المُنضبط لنسقٍ معرفيّ لإنتاج المعرفة إلى حربِ شوارع بين الأطراف السياسيّة المُتعارضة، عدا عن أنّها تَختزل، بشكلٍ قاطع، كوكبةً من مُستشرقين مُختلفين تتبايَن توجّهاتُهم السياسيّة جذريًّا بعض الأحيان، في خانةٍ واحدة، ومؤدّية بالتالي، على سبيل المثال، إلى المُساواة بين إجناتس جولدتزيهر (الباحث الجليل الموهوب التي كانت معارضته للكولونياليّة الأوروبيّة مسألة مبدأ أخلاقي وفكري) وبين برنارد لويس وسَلفه الاستشراقي أرمينيوس فامبري (المُستشرق المتواضِع الحال، المُقرّ بطبيعة عمله كجاسوس في خدمة الكولونياليّة البريطانيّة بالعموم والصهيونيّة الأوروبيّة على وجه الخصوص)» (ما بعد الاستشراق، ص109 - 110). وهو ما يقودنا إلى قراءة التناظر القائم ما بين المعارف التي أَنتجها هذا النَّوع من «الاستشراق» في الماضي وتداعياته السياسيّة التي تجلَّت في ترسيخ الاستعمار والاحتلال المُباشر من جهة، وبينها كمعارف مُعمَّمة في الحاضر وتداعياتها السياسيّة في تكريس الهَيْمَنة الأمريكية الإسرائيليّة من جهة ثانية.
وإذا كان سقوطُ جدار برلين قد أحالَ على القدرة المُطلقة للنيوليبراليّة، فذلك لم يكُن ليحدث لولا منظومة المعارف التي ترتكز على ميراث هذا النَّوع من الاستشراق القديم ونسخته العصريّة، التي طاولت، في شرطنا التاريخيّ الرّاهن، الفكرَ الاقتصاديَّ نفسَه، جاعلةً من الفكر النيوليبرالي «عِلمًا كاملًا وتامًّا»، «معصومًا عن الخطأ»، و«خارج إطار النقاش» بحسب برتران بادي في سياق تركيزه على «هَيْمنة الإمبراطوريّة الأمريكية»، والاحتكام إلى اليقينيّات المُثبتة إلى ما لا نهاية في كُتُب العلاقات الدوليّة التي لا تُحصى، وعدم التفات المُنَظِّرين الكلاسيكيّين إلى «دراسات التّابع» (subaltern studies) والأهميّة التي أعطتها تلك الدراسات لسلوكيّات الخاضعين في مُقاربتها المنهجيّة. إنّه «استمرار الشكل التقليدي للكولونياليّة جنباً إلى جنب مع تكريسِ هيْمنةِ أشكالها الجديدة المُعاصرة في صورةِ علاقاتٍ بيْنيّة غير متكافئة أو دوليّة مفروضة وغير عادلة، أو تتجسَّد في شكلِ مُمارَسة نفوذٍ ثقافي/ لغوي أو تجاري أو احتكاراتٍ علميّة، فضلًا عن فرْض الشروط التي تُبرِّر التطوُّرَ اللّامتكافئ بين ما اصطُلح عليه بمجاز الضفّتَيْن الجنوبيّة والشماليّة» (أزراج عمر، «في النقد ما بعد الكولونيالي»، دار اسكرايب للنشر والتوزيع، ط2، 2023، ص25). مضامين مُضلِّلة
يُذكّرنا كلُّ ذلك بما جاء في مذكّرات البريطانيّ ألفرد سكاون بلنت (1840 - 1924)، الذي تنقَّل في المناصب في الوكالات والسفارات البريطانيّة حتّى اعتزاله خدمة حكومته سنة 1859، والذي ربطته صداقةٌ متينة بالشيخ محمّد عبده. ففي مذكّراته هذه المعنونة بـ «التاريخ السرّيّ لاحتلال إنجلترا مصر»، يوّجه كلامه للمصريّين قائلًا: «احذروا منّا فإنّنا لا نريد لكُم شيئًا من الخير. لن تنالوا منّا الدستور ولا حريّة الصحافة ولا حريّة التعليم ولا الحريّة الشخصيّة. وما دُمنا في مصر، فالغَرض الذي نسعى إليه من البقاء فيها هو أن نستغلّها لمصلحة صناعتنا القطنيّة في منشستر، وأن نَستخدم أموالكم لتنمية مَمْلَكَتِنا الأفريقيّة في السودان»، وأضافَ قائلًا: «لم يبقَ لكُم عذر إذا أنتم انخدعتم في نيّاتنا بعد أن وضح الأمر فيها وضوحًا تامًّا. فاحذروا أن تنساقوا إلى الرضى باستعباد بلادكم ودمارها» (مطبعة البلاغ الأسبوعيّ، 1928، ص8).
لقد حذَّرهم من تشويه البريطانيّين للحقائق في سبيل مُحاربة الوطنيّين المصريّين، ونصحهم بأن يُثابروا على مُعارَضة الاحتلال البريطانيّ، وبأن يُجاهروا بذلك بصوتٍ واحد، مُضيفًا: «ذَكِّرونا دائمًا، وبكلّ وسائل الإعلان، بألّا حقّ لإنجلترا في أن تتصرّف عندكم تصرُّفَ السيّد، وأنّكم لا تريدوننا حامين لكم ولا مُستشارين ولا مُنظِّمين لإدارتكم (...) لديكم جالية أجنبيّة كبيرة غير إنجليزيّة فوثِّقوا روابطكم بها واجتهدوا في أن تقضوا أشغالكم معها بدلَ أن تقضوها معنا (...) سالِموا كلّ الناس ولكن لا تحاولوا أن تُسالموننا، لأنّ كلّ محاولة من هذا النَّوع معنا تذهب عبثًا، ولأنّ كلّ نداء توجّهونه إلى شعورِ العدل فينا وشعور الشرف والإنسانيّة يكون بعد اليوم موجبًا للسخرية، وليس له عندنا غير جوابٍ واحد هو الاحتقار» (ص9).
هذا الكلام الذي يشير إلى الاستقواء بجهازٍ إيديولوجيّ (الحماية/ السلام/ العدل/ الشرف والإنسانيّة) لشرْعنة الهَيْمنة والسيطرة، وجعْلها مقبولة من الطرف الأضعف (التّابع/ المُحتَلّ)، والذي لا يُخفي معه المركزيّة الغربيّة، يستند فضلًا عن القوّة (العسكريّة أو غيرها)، إلى مضامين مُضلِّلة تلبس لبوس «العِلم» و«المعرفة»، يُنتجها بعض «المُستشرِقين» من ذوي النظرة الدونيّة للشرق، بوصفها يقينيّات معصومة عن الخطأ، وهذا ما لا يستوي مع المعايير العِلميّة والمعرفيّة، ولا حتّى مع المعايير الأخلاقيّة. فالعالَم الآن ليس، كما ادّعى أحدهم، والمقصود هنا برنارد لويس، «مجبولًا» من «حضارات» بتعبير حميد دباشي، «بل من نظام/ لانظام عالَمي مُصاب بالجنون ومُثير للسخط لا يعنيه بتاتًا معرفة الانتماء الدّيني لمليارات البشر طالما يلبسون زوجًا من أحذية Nike الرياضيّة، يُمكن تصنيعها بثمنٍ زهيد وبَيْعها على نطاقٍ واسع وطَرْح أنواعٍ جديدة منها خلال فترات قصيرة جدًّا» (ما بعد الاستشراق: ص292).
ولعلّه ما من سياقٍ أفضل كي نفهم السيطرة، في السياق العالميّ أو الدوليّ الرّاهن، من النَّظر في استمرار إسرائيل مدعومةً من الولايات المتّحدة، وعلى المكشوف، في حرب الإبادة على غزّة، وفي حروبها في لبنان وسوريا، ضاربةً عرض الحائط بكلّ المواثيق الدوليّة وبشرعة حقوق الإنسان، مذكّرةً بمقولةٍ لنابليون: «ليس ثمّة قوّة على الأرض تَدفع الغاصب لتقديم مبرّرات لسلوكه وقراراته لِمَن يغتصبهم!» (منقولة عن كرمة سامي في تقديمها كِتاب «دراسات ما بعد الكولونياليّة» لمجموعة مؤلِّفين، صادر في العام 2010 عن المركز القومي للترجمة في القاهرة، ص13). تلك المقولة التي تَفضح البنية المعياريّة للاستشراق «الملغوم» في الماضي، كما في الحاضر.
*مؤسّسة الفكر العربي
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.