من الافتراءات التي تم الإشارة إليها وهي بالطبع غير صحيحة، وجود المعاصي والمنكرات في هذه الليلة، بل هناك من ذهب لأكثر من ذلك، زاعمًا بأن هذه العادة ما هي إلا ضرب من ضروب الشرك والعياذ بالله، ولتوضيح ذلك فأنا كمرتاد لهذه العادة ومشارك في هذه التجمعات بشكل دوري لا سيما مع أهالي «المسفلة» الحي المشهور بمكة المكرمة والقريب من بيت الله الحرام، ومن واقع تجربتي، لم أجد لتلك الافتراءات والأكاذيب موضعًا ولا مكانًا، بل العكس تمامًا فإن تجمعات الشعبنة حافلة بالفضائل والامتيازات والمكاسب الكثيرة.
فلكل منطقة أو مدينة من مدن مملكتنا الحبيبة، عادات وتقاليد تمتاز بها عن غيرها من المناطق والمدن، ومن البديهي بطبيعة الحال أن تشترك هذه المناطق والمدن في بعض الخصائص والمميزات والعادات والتقاليد في أحيان كثيرة، غير أن هناك عادات وتقاليد استثنائيّة تنفرد بها مدينة مكة المكرمة على وجه الخصوص عن سائر مدن المملكة، فعادات وتقاليد مكة المكرمة لها خصائصها الخاصة والمتميزة التي ارتبطت بها لأسباب دينية بالمقام الأول، ولتعدد الأعراق والثقافات فيها بصورة واسعة في المقام الثاني.
فهذه المدينة العريقة التي تذخر بالعادات والتقاليد التي تعبر عن هويتها الدينية والتاريخية الفريدة، كانت وما زالت مركزًا للأمم، إذ تستمد دورها الديني والثقافي من تاريخها المقدس وتراثها الحضاري الممتد عبر العصور.
من أبرز تلك العادات التي ينفرد بها أهالي مدينة مكة المكرمة عن بقية مدن المملكة ما يسمى بـ«الخليف» وهي عادة وتقليد ارتبط بموسم الحج، وصعود الحجيج إلى المشاعر المقدسة وخلو مكة من الرجال، هذا التقليد الاجتماعي يعكس روحانية الحدث وأصالته العريقة من خلال استغلال نساء مكة خلوها من رجالاتها ومن ثم توجههم إلى المسجد الحرام للصلاة والتعبد فيه، بصورة مطمئنة، دون مضايقة الرجال لهم - على كل حال «الخليف» ليس هو مدار حديثي اليوم - فمكة المكرمة تحتفظ بعادة اجتماعية أخرى مميزة لا تقل أهمية عن سابقتها، تدعى بـ«الشعبنة» وهذه العادة هي ما سوف أتحدث عنها على عجالة في هذا المقال.
تقام فعاليات «الشعبنة» في شهر شعبان، حيث يجتمع في هذا اليوم أهالي مكة في أجواء روحانية مليئة بالمحبة والألفة، تجمع بينهم البساطة والتواضع، يتخلل هذا التجمع أنشطة دينية وثقافية وترفيهية وألعاب تراثية شعبية، تعكس أصالة الماضي وعراقة الحاضر كما أسلفت، في مقدمتها لعبة المزمار التي يحاول فيها الرجال، شبابًا وشيوخًا على حد سواء إبراز مهاراتهم البطولية من خلال هذه اللعبة، وفي هذه الليلة التي تمتد إلى منتصف الليل، ويحلو فيها السمر، تعقد بعض الجلسات الجانبية التي لا تخلو من الحوار الأدبي، ومن ثم يشرع بوضع وليمة العشاء، التي تشتمل هي الأخرى في الأساس على الأكلات الشعبية التي تشتهر بها المنطقة.
بالمناسبة، لا يفوتني أن أنوه هنا بأن جميع هذه الفعاليات التي تجسد قيمة الترابط الأسري والمجتمعي تقام عادة في أماكن مفتوحة وشاسعة بحيث يسع المكان الحضور الغفير الذي سوف يحضر المناسبة، حسب كل حارة وحي، وحسب تعدد أفراد الأسر.
أخيرًا فإن أقصى ما يمكن قوله في هذا الشأن أن الشعبنة هي عادة سنوية لتجمع حميد يستذكر فيها الناس بعضًا من فضائل شهر رمضان المبارك، بصفته لصيق لهذا الشهر.
ولا بد من التأكيد مرة أخرى على أن هذا التجمع الذي يقام بشكل دوري، وما يتخلله من فعاليات وأحاديث ومحاضرات، ما هو إلا ملتقى اجتماعي، ثقافي، يسلط عبره الضوء عن مكانة مكة المكرمة عبر التاريخ، وذكر رجالتها الذين كانت لهم بصمة بارزة في شتى المجالات ممن تبوء مكانة مرموقة، إضافةً إلى التعارف وتقريب وجهات النظر بين الجيلين، جيل الأجداد والآباء، وجيل الأبناء والأحفاد، ومقارنة الحال بين الماضي والحاضر على مستويات عديدة وفي مجالات وجوانب شتى.