لا أتطرق في مقالي هذا إلى جوانب نقدية أو حرفية تخص الإعلام ومفاصله، ولكن أبحث في طرق تلقي المستهلك الخبري للمادة المعروضة، وأعتقد أن الإعلام المعاصر يعتمد بشكل متزايد على الإبهار البصري كوسيلة لجذب الانتباه في عصر السرعة والتشويش، حيث أصبح التنافس على عيون المشاهدين أكثر ضراوة من أي وقت مضى، ولعل هذا التوجه ينبع من حقيقة أن البشر كائنات بصرية بطبيعتها، فالصورة تثير فينا مشاعر وردود فعل أسرع من الكلمات أو الأصوات، لكن هذه الحقيقة تحمل في طياتها مفارقة عميقة، فعندما يصبح الشكل هو الهدف قد يُفقد المضمون عمقه ورسالته فيصبح الإعلام مجرد وسيلة لإثارة الانتباه دون أن يقدم قيمة حقيقية.
العلاقة بين الشكل الجمالي والمضمون الإعلامي تتسم بالتوتر والتكامل في آن واحد من جهة يمكن للجماليات أن تجعل الرسالة أكثر قوة وتأثيرا من خلال تقديمها بشكل يجذب الانتباه، ويُسهل الفهم، لكن من جهة أخرى قد تتحول هذه الجماليات إلى غاية في حد ذاتها، فيضيع المضمون في بحر من الألوان والمؤثرات الصوتية والبصرية. ولقد رأى الحكماء والمفكرون في العصور السابقة أن الحكمة لا تناقض البلاغة بل يمكنها أن تتجلى من خلالها، لكنهم حذروا من أن الإفراط في الزخرفة يمكن أن يحجب الحقيقة، وهنا يظهر التحدي الأساسي للإعلام الجمالي، كيف يمكن تحقيق التوازن بين الشكل والمضمون، بحيث لا تصبح الجاذبية البصرية عقبة أمام الفهم العميق،
وفي السياق الإعلامي الحديث تبدو هذه القضية أكثر إلحاحا مع هيمنة الوسائل البصرية مثل التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي على المشهد الإعلامي، فالمحتوى المرئي يمتلك قدرة فريدة على خلق تأثير فوري، لكنه قد يعاني من افتقاره إلى العمق والتأمل بالمقارنة مع الوسائل الأخرى مثل الكلمة المكتوبة التي تتطلب من المتلقي جهدا عقليا أكبر لفهمها واستيعابها، أما الوسائل المسموعة فتقع في منطقة وسطى، حيث توفر للمستمع مساحة للتخيل والإبداع لكنها قد تفتقر إلى الإقناع البصري الذي يجعل الرسالة أكثر إلحاحا وتأثيرا، وهنا يظهر تساؤل فلسفي حول طبيعة القبول والتفاعل مع هذه الوسائل المختلفة، هل يرجع ذلك إلى طبيعة الوسيلة نفسها أم إلى السياق الثقافي والنفسي الذي نشأ فيه المتلقي.
في عالم الإعلام البصري قد يتحول المضمون إلى مجرد خلفية للشكل الذي يسيطر على التجربة الإعلامية بأكملها، ففي الإعلانات مثلا تُستخدم الجماليات بشكل مكثف لخلق رغبات ودوافع لدى المتلقي، قد لا تكون مرتبطة بالرسالة الحقيقية للمحتوى الإعلامي، وفي هذه الحالة تصبح الجماليات وسيلة للتلاعب بدلا من التنوير، لكن هذا لا يعني أن الشكل الجمالي للإعلام يجب أن يُنظر إليه دائما بعين الريبة، فهناك أمثلة عديدة على استخدام الجماليات لتعزيز المضمون وإيصاله بشكل أعمق وأكثر تأثيرا، ففي الأعمال الوثائقية على سبيل المثال يمكن للجماليات البصرية أن تُظهر جمال العالم الطبيعي أو مأساويته بطريقة تعزز من فهم المتلقي للقضايا المطروحة.
المنافسة بين الوسائل الإعلامية المختلفة المرئية والمسموعة والمقروءة تطرح تساؤلات حول أيها أكثر قبولا ولماذا؟ فالإعلام المرئي يعتمد على الإبهار الفوري لكنه قد يفتقر إلى التأمل والإدراك العميق، والإعلام المسموع يسمح بالتركيز على جوهر الرسالة، لكنه قد يعاني من نقص الجاذبية الفورية، أما الإعلام المكتوب فيظل وسيلة غنية بالتفاصيل والتأمل، لكنه قد يبدو مملا أو بعيدا عن التفاعل السريع المطلوب في العصر الحديث، إن القبول الذي تحظى به الوسيلة الإعلامية يعتمد في نهاية المطاف على طبيعة الجمهور وسياقه الثقافي والنفسي، فالأشخاص الذين يفضلون التأمل والتفكير العميق قد يجدون في الكلمة المكتوبة وسيلة أكثر إشباعا، بينما ينجذب من يبحث عن الإثارة والتفاعل السريع إلى الإعلام البصري أو المسموع، والفلسفة هنا تدعونا إلى تجاوز هذه الثنائية بين الشكل والمضمون للنظر إلى الإعلام ككل متكامل، حيث يمكن للجماليات أن تكون وسيلة لفهم أعمق بدلاً من أن تكون مجرد سطح يلمع فوق فراغ فكري، إن التحدي الأكبر للإعلام هو أن يُعيد تشكيل العلاقة بين الشكل والمضمون بطريقة تجعل من الجمال أداة للتنوير وليس وسيلة للتلاعب.
وقد نتفق أنه يمكننا القول إن الجاذبية البصرية ليست بطبيعتها مفسدة للمحتوى، لكنها تحمل إمكانات مزدوجة تعتمد على كيفية استخدامها، فالوعي بهذا التوازن هو الذي يحدد ما إذا كان الإعلام قادرا على تقديم رسائل ذات قيمة حقيقية أم أنه سيظل عالقا في دوامة الإبهار السطحي.