إكمالًا لسلسلة المقالات «في نقد التدين والمتدين»، أطوف معكم حول الموضوع مرة أخرى من خلال فكرة قد تبدو غريبة بعض الشيء للبعض، ولكن بتأمل حيادي وعلمي ومنهجي، سنجد أن هذه الفكرة معقولة وليس مبالغًا فيها. فتباعد الزمان عن زمن النبوة والوحي وتوسع العالم، وكثرة البشر، وكثرة السؤال، مع وجود المئات من الإجابات المختلفة عن السؤال الواحد، وكثرة الآراء وكثرة الاختلافات والاحتراب على الرأي والمذهب والتوجه، إضافة إلى كثرة المشتغلين بالعلوم الدينية، والعلوم المتصلة بها؛ كل هذا يبعد الناس عن التدين ويقربهم أكثر إلى مزاولة الحياة بشيء من الآلية التي تضمن إعلاء قيم مختلفة ليس أولها قيم الأخلاق والجمال والقيم الفضائلية التدينية، فعالم اليوم يتجه نحو المادية بشكل عميق، وكل ثانية تقودك نحو الحياد الأخلاقي، والحياد الجمالي، والحياد الديني، والحياد الإنساني بمقدار كبير، فالعالم يتجه نحو العقلنة ومجاوزة مناطق التوتر الفكري ومناطق الارتهان لأي مذهب يعيق التقدم أو يعيق مصالح (قيم) البقاء والرخاء والرفاه والتفوق والجدارة. ونحن اليوم أقرب إلى واقعنا البشري الذي يجبرنا على البعد التدريجي عن فطرة المولد الأولى التي جبلنا فيها على القرب من الأشياء والمعاني والمفاهيم في أصلها وخلقتها الأولى. نحن اليوم نعيش عالمًا يتمثل المصلحة بالمقام الأول، وما يؤدي إليها وما يقود لها، ولا يعتبر الأخلاق والجمال والدين والفضائل قيمة أولى، بل هي قيم تالية بعد البقاء والرفاه والتفوق.

والتدين في أصله ضعيف، ومن بدايته لم يكن في يوم من الأيام غالب، وكان غريبًا وبدأ غريبًا وسيعود غريبًا، بمعنى أنه كان أكثر ضعفًا فصار ضعيفًا وسيعود أكثر ضعفًا، وأما انتشاره ووصوله الآفاق والغايات، فهذا لأنه دين ولأنه حق، ولا يعني انتشاره قوته، وما نراه من مظاهر تبدو في ظاهرها جوانب قوة ما هي في حقيقتها إلا مظاهر ضعف. فلو غلبت الأشعرية كمذهب على سبيل المثال فسيرى من يعتقدون أنهم على الحق من السلفية أن الدين في غربة، وأن الإسلام مستضعف، والعكس بالعكس. ولو غلبت الشيعة في بلد فسيرى أهل السنة أن الدين في غربة، وأن الإسلام في ضعف، والعكس بالعكس، إلى آخر هذه المتوالية الفكرية النكدة. ولكن لو تم رؤيتها كظاهرة دينية بالعموم فستظن بادئ الرأي أنها قوة وانتشارٌ طاغٍ، وكلنا نعلم أنه ليس أكثر من تشرذم مقنع.

وإذا آمنا بحقيقة حتمية هذا الضعف الذي أخبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في مجموعة أحاديث غربة الإسلام، فهذا يجعلنا أقل حدة في النظر لمن لا يتدين أو لمن لا يؤمن، ويجعلنا أكثر عملية في معالجة هذا الوضع وأخف احتقانًا، ولذلك تأتي أهمية حماية التدين ومسيرته من التطرف في عالم يتجه بقوة نحو اللاتدين، بسبب ممارسات المتدينين وحماقاتهم في إشعال حروب فعلية، وأخرى فكرية يطلقون عليها مسميات القداسة والجهاد، وهي ليست لها أي قدسية، أو أي صلة بمعنى قرآني من أي وجه، ولذا أجزم أنه ليس الإلحاد أو اللادينية أو القرآنية بمعنى إبطال السنة تمامًا، والاقتصار على القرآن الكريم، هي ما يناقض أو يضاد أو يقصي التدين فقط، بل إن ما يضاد التدين هو الغلو فيه والتشدد في مبادئه، والتطرف في فتاواه وأمره ونهيه، الأمر الذي يجعل نقض التدين يأتي من داخله، لا من خارجه، وما اتجه الناس في غالبهم إلى الإلحاد أو اللادينية أو القرآنية إلا رد فعل سلبي على نتائج الغلو في التدين والتطرف ومخرجاتهما -كما أسلفنا- وليس لموقف علمي متجرد، بعد بحث وتأمل تام الأركان، الأمر الذي يحدث في بعض الحالات، مما يجعل التمسك بالدين أقوى وأمتن وأكثر سلاسة وفهما لعمقه الجمالي وبعده الإنساني، أو أن يكون التخلي عنه تخلية تأخذ بأسباب المنهج العلمي والحياد أو الصفرية المشاعرية على الأقل، فلا يعمل من يصل إلى نتيجة ترك الإيمان والبعد عن الدين، إلى مسألة محاربة الدين، ومحاربة المتدين أو المؤمن.


ثمة أمل كبير بتحسن الأخلاق العامة للبشر عبر تحسين جودة التدين، ورعاية مسيرته في المجتمعات المتدينة، وعبر تحسين النظر إلى التدين في المجتمعات غير المتدينة، متى ما اقتنع المتدين أن ثمة مساحة واسعة جامعة يمكنها تجاوز الخلافات الضيقة مهما كانت حدتها.