في مقدمة كتابه الصغير واللطيف (من غزل الفقهاء)، يقول علي الطنطاوي:

«قال لي شيخ من المشايخ المتزمتين، وقد سقط إليه عدد من الرسالة، فيه مقالة لي عن الحب:

- مالك والحب، وأنت شيخ وأنت قاض، وليس يليق بالشيوخ والقضاة أن يتكلموا في الحب، أو يعرضوا للغزل؟! إنما يليق ذلك بالشعراء..

فضحكت وقلت له:

- أما قمت مرة في السحر فأحسست نسيم الليل الناعش، وسكونه الناطق.. وجماله الفاتن، فشعرت بعاطفة لا عهد لك بمثلها، ولا طاقة لك على وصفها؟.

- أما سمعت مرة في صفاء الليل نغمة عذبة، من مغن حاذق قد خرجت من قلبه، فهزت منك وتر القلب، ومست حبة الفؤاد؟..».

ثم قدّم علي الطنطاوي ومضة تحمل روائع من غزل الفقهاء، ويبدو أن من هذه الومضة اقتبس غازي القصيبي الضوء وأخرج للنور كتابه (الإلمام بغزل الفقهاء الأعلام)..

على نسق هذا الموضوع.. هذا السؤال: ماذا عن غزل النساء؟! أي هن المتغزلات لا المتغزل بهن! الإجابة في كتابين: الأول (شاعرات من البادية) لعبدالله بن رداس الحربي-رحمه الله- الذي جمع فيه غزل (وضحى، وقمرى، وصيتة، ونافعة، وشلسا، وبخوت..)، وقدّم الكتاب حمد الجاسر -رحمه الله- والكتاب الآخر لعبدالله بن سليم الرشيد (بانت سعاد.. بان سعيد)، الذي أشعل فيه جذوة الأسئلة، وقدّم إضاءة مكثفة من مدونات الأدب العربي عن غزل شواعر الفصحى في العهد القديم.

وسأحاول في هذه السلة الصغيرة الاقتطاف من الكتابين ومن الشعرين (الشعبي والفصيح)، كما يقتطف الفلّاح من الورد الأحمر والزهر الأصفر.

في الكتاب الأول.. أسماء لشاعرات من البادية لم يتمردن على الأعراف الاجتماعية والقبلية إلا بقصائد حب تتمايل كالأزهار البرية الحمراء تحت الشمس، تشعرني قصائدهن العذبة، التي قرأتها أن مهمتها الأولى تلطيف أجواء حياة البادية القاسية، كما يلطف رذاذ المطر نهار الصيف في الصحراء القاحلة، وتكشف كلماتهن أن ذلك المجتمع مجتمع (رعاة الكواكب والبروق والأمطار) بغيرة معتدلة تصالح مع الحب، ونظر للمرأة نظرة عز وفخر، ويكفي وقتها أن شيخ القبيلة وفارسها إذا اعتزى قال (وأنا أخو فلانة)! ولا ننسى أن شعراء تلك المرحلة رفعوا سقف الشعر وسقف العشق، فكانت قصائدهم أيضا تزخر بأسماء الجميلات اللاتي يخرجن من بيوت الشعر إلى الصحراء المكشوفة للمراعي والمياه، بعيدا عن أرض الريبة وهن يرتدين أنقى لباس العفاف، وأزهى لباس النقاء.. على مدى الطريق المعشب تحت أقدامهن يرافقهن الشعر ويلمع جمالهن في مرايا النجوم، (وَفي البِداوَةِ حُسنٌ غيرُ مَجلوبِ)، ولا أجمل من تصوير عدسة شاعر البادية لنجمة تنتمي للفجر الأبيض، ولغزالة تخرج من الروض الأخضر، ولشمس تختبئ خلف غيمة صغيرة.. ولا أصدق من بيان الشاعر الكبير عبدالله بن عون:

«بنات بدوٍ حوزهن حوز غزلان

‏نهب القلوب مخيبات الطماميع

‏لياعرضّت شقراً كما مطرق البان

‏تلفح جدايلها هبوب الذعاذيع

‏مادونها حاجز حوامي وجدران

‏هيبات أهلها عن حماها موانيع»

قبل فترة وصلني مقطع عبر (الواتس) لشاعر من ذلك الجيل، يتحدث بعفويته التلقائية وسجيته البدوية عن حكاية حب نقية أنقى من (.. ليلة أمطار إفريقية)، كما يقول نزار، حيث تقدم لفتاة ولم يحصل نصيب فاشتعلت في قلبها قصيدة من جمر وطلبت من شقيقها أن يبعث قصيدتها له، لكن شقيقها لم يقم بذلك وبعد مدة زارهم الشاعر فشكت إليه شقيقها وكشفت بصوتها عن القصيدة:

«المرقب اللي قد محمد رقا به

والله لعديبه صباح وعشيه

وأهل دمعٍ مثل وبل السحابة

وأشلّق ثيابي بقوة يديه

وانسف على كبدي بعد من ترابه

اغديه يبرد من لهبها شويه»

وأمام هذه الشكوى المشتعلة.. سألها الشاعر وماذا تريدين؟

فقالت لا أريد منك إلا قصيدة!

يا لهذه البراءة !! ويا لهذا النقاء!

من هذه القصيدة ومن قصائد في كتاب (شاعرات البادية) يتضح للقارئ أن بنات البادية يصرحن في الغالب باسم المعشوق..

ومن أشهر هذه القصائد قصيدة قمرى الدعجانية التي ترجمها «جوهن جاكوب» للغة الألمانية في كتابه «بدو وسط الجزيرة العربية»:

يأمل قلبٍ من هوى «زيد» مطروق

طرق الحديد ملينٍ بالضويا

..

يفدى عشيري كل برقا على روق

‏واللي بعيد الدار واللي هنيّا

‏ويفداه من يمشي على الارض من فوق

‏واللي يشوفون القمر والثريّا«

أما كتاب (شواعر الفصحى) فيؤكد أن التصريح باسم المعشوقين من النادر كقول برّة العدوية:

فقد شَفّ قلبي بعد طولِ تجلّدي

‏أَحاديثُ من يحيى تُشِيبُ النواصِيا

‏سأَرعى ليحيى الوُدّ ما هبّت الصَّبا

‏وإن قطعوا في ذاك عمدًا لسانِيا

ومما أضحكني بيتان من الشعر الشعبي لشاعرة لم تكشف عن اسمها ولم تصرح باسم محبوبها لكنها ذكرت المكان (القنانه..الضلع أبو الريحان)، والحكاية كما يرويها ابن رداس في كتابه: أن شاعرة من قبيلة حرب تقدم لها أحد أبناء قومها واعتذر أهلها بأنها صغيرة وكرر خطبته وزيارته لهم.. فلما علمت برغبته وامتناع أهلها أرسلت إليه هذه الأبيات:

ياونتي ونيتها فالقنانه

‏ والضلع ابو الريحان من ونتي ون

‏يا مرسلي قله تقلك (فلانه)

وجدي على لاماك (ياهن ابن هن).

من الشائع أن العرب كانت لا تنكح المرأة من رجل شّبب بها، وأشار إلى هذا (أبو بسام) في كتابه، وبالتحديد في صفحة «وقفات مع بعض أخبار المتغزلات» وأورد هذا الخبر:

أن عبدالله بن مصعب كان يشبب بشاعرة وهي من بني نصر بن دهمان- فخطبها، فأبى أهلها أن يزوجوه، فلما يئست من الزواج منه قالت:

«إذا خدرت رجلي دعوت ابن مصعب.. فإن قلت (عبد الله) أجلى فتورها.

ألا ليتني صاحبت ركب ابن مصعب.. إذا ما مطاياه اتلأبَّ صدورها

لقد كنت أبكي واليمامة دونه.. فكيف إذا التفَّت عليه قصورها».

وفي خبر ثانٍ أن امرأة عشقت رجلا، فضربها زوجها بالسوط، فأنشدت:

«أقول لعَمْرٍ والسياط تلفُّني... لهُن على متنيَّ شرُّ دليل:

فاشهد يا غيرانُ أني أحبُّهُ.. فسوطك لا يُقلع وأنت ذليل»

هذان البيتان قريبان من أغنية «مويضي المطيرية» التي خاطبت بها الحمامة.. وفيها هذا البيت:

«كسّر عظامي كسّر الله عظامه: شوفي مضارب شوحطه بالحجاجين»

ومن الآراء عن (شعر المرأة) قولهم:

إن شعرها فقط مشاركة للرجل في الشعر!! وإن غزلها لم يكن عن شعور قلبي!!

وقد سمعت من أحد كبار السن حكاية شاعرة من ذلك الجيل كانت تواجه الشعراء بالقصائد ولا ترحم !! بل ربما وصلت أبياتها النارية إلى «حلبة القلطة»..

أشعارها التي سمعتها ونوعية شعرها تدل على أنها أرادت فقط مشاركة الرجل وإظهار (المقدرة الفنية)..

ولكن هذا لا يعني أن النجمة لا قلب لها! والغيمة لاعين لها!

كيف لمن مال للقول السابق «جملة وتفصيلا» ألّا يرى وميض الجمر يشتعل بين الكلمات، وكيف لا يشعر بقصائد حمراء وصفراء ترمي بشرر:

كقول الشاعرة:

«فَأُقسِمُ لو خُيِّرْتُ بينَ فِرَاقِهِ.. وبينَ أبِي, لاخْتَرتُ أنْ لَا أبَا لِيَا»

وقول وضحاء العبدالله: «أهلي مع أهله كلهم فدوةٍ له»

وقول حفصة الركونية:

«أغار عليك من عيني وقلبي ** ومنك ومن زمانك والمكان

ولو أني جعلتك في عيوني ** إلي يوم القيامة ما كفاني»

وقول نافعة المطيرية: «يلعب بقلبي لعبة الطير بالبرّ»

وقول سالمة الكلبية: «لقد هاجَ لي شوقاً وغَالَ صبابَةً.. حنينُ قلوصي حِيث حنَّتْ بذي الأَثْلِ»

«مقدار ما وصلنا من الشعر المنسوب إلى النساء قليل، والغزل فيه أقل».. هذا ما يبينه د. عبدالله بن سليم الرشيد عن غزل ( شواعر الفصحى) في كتابه..أما عبدالله بن رداس الحربي-رحمه الله- فيبدو أنه اضطر بسبب كثرة قصائد (شاعرات البادية) وغزلهن إلى اصدار جزء ثان لكتابه..ولهذا سيكون الجزء الأخير من هذا المقال مقتطفات على سبيل الجمال من هذين الجزأين:

أحيانا كقارئ للشعر تستوقفني مفردة وأعدها قصيدة !

ومن أرقّ ما استوقفني من المفردات الشعبية، مفردة (يبعيدي) والحكاية كما يرويها ابن رداس في كتابه: أن شاعرة شمالية رفض والدها أن يزوجها ممن تهواه من بني عمها فاستعطفت والدتها وطلبت منها أن تتدخل:

«خافي من النار يا يمّه

خافي من النار (يبعيدي)

تراي أنا اليوم بالذمه

مثل الوغد راضع الديدي»

توقفت كثيرا أمام رقة هذه المفردة وأمام جمال اللهجة الشمالية (ماتهارجن، أهيلك -تصغيرا للأهل-) في قصيدة «الشمرية»:

«(ما تهارجن) كود بعيونك

اهرج وهرجك على بالي

ان كان (اهيلك ) يعذلونك

انا ترى السيف يحنى لي»

وما ألذ بيت «مرسا العطاوية» هذا:

«هرجه حليب بكار عربٍ سلايل

يرعن من (سفوة) ليا (لبة الخال)

‏ وما ألطف أمنية «صيته التميمية» وأغنيتها: «أنا بواد الرس داري ظليله

‏وصويحبي يتلي المها بالصواهيد

‏«ليته إذا صاد المها عنه أشيله»

‏أشيل أنا عن صاحبي جملة الصيد»

لكن بعد هذه الرقة وهذا اللطف كانت هذه قفلتها:

من لامني يلهم دقاق النثيله.. والا يطق بهامته نايف الحيد!

(دقاق النثيلة: التراب الناعم. الحيد: الجبل)..

‏ وما أعظم حب «وضحى العتيبية» وخجلها:

«لولا الحيا يا ناس لالحف ذلوله

‏ألحف ذلوله عن ذواري الهبايب».

خاتمة

قصائد ملّونة طارت من القلوب البيضاء المشتعلة من الشوق، فحلقت في سماء العشق على هيئة غيمات وردية.. هذا عندما كان الحب..حبا والغربة.. غربة.. واللهفة.. لهفة..

أما الحب في عصر السوشيال ميديا.. «يا عيني عليه»!!

وما أصدق ما قاله نزار:

«الحبُّ.. أصبَحَ كلّهُ متشابهاً

‏كتشابُهِ الأوراقِ في الغاباتِ»

وسلامتكم.