يدخل الفقيه المفكر الأديب العربي الأندلسي أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم (٩٩٤ - ١٠٦٤ م)، في عـداد الشخصيات الثقافية العالمية التي أوصى مجلس السلم العالمي لجان أنصار السلم الوطنية، في مختلف البلدان والقارات، أن تحتفل لذكرياتها هذا العام (1964)، بمختلف الأشكال والطرق والوسائل الممكنة، تقديرا وتكريما لما أسهمت به هذه الشخصيات، من أعمال فكرية أو أدبية أو فنية أو اجتماعية، في تقدم التاريخ الحضاري السلمي خلال مراحل مختلفة من تاريخ الإنسان.

ابن حزم هو ثالث شخصية عربية احتفل أنصار السلم في العالم بذكرياتها حتى الآن، بعد ابن طفيل وجابر بن حيان. اختيار يستحق التقدير البالغ، من حيث إن ابن حزم قد طبع عصره الأندلسي، في النصف الأول من القرن الخامس الهجري ومن القرن الحادي عشر الميلادي، بطابع شخصيته، العلمية والفكرية، إلى حد يتعذر على الباحث أن ينكره. فقد شغل الرجل مكانا ضخمًا في تاريخ الحركة الفكرية بالأندلس أثناء تلك الفترة الزمنية العاصفة التي تسمى بعهد الفتنة البريرية.

ابن حزم، رغم كونه من أعلام رجال الدين والشريعة في بلاده وعصره. ورغم أن وقته كان يشغله بمدارسة العلوم الشرعية والعقلية والتأليف فيها والمناظرة الجادة في قضاياها بالإضافة الى همومه السياسية وهموم النكبة التي أصيب بها في المضطرب السياسي - رغم ذلك كله لم يجد حرجًا في أن يقتطع من وقته ذاك وأن ينصرف عن مشاغله تلك، ليعكف على تأليف رسالة خاصة بقضايا الحب لعلها تعد من أفضل المحاولات الأدبية في تراثنا لدراسة هذا الموضوع الإنساني على أساس من التجربة والملاحظة الذاتية، إلى جانب التحليل الذي حاول أن يجري فيه على الطريقة الاستقرائية الموضوعية لاستخلاص نتائج عامة يعطيها صفة الشمول و«التقعيد». تأليف ابن حزم لهذه الرسالة التي سماها «طوق الحمامة في الألفة والآلاف»، أشبه بالثورة فعلا، إذ خرج بهذا العمل على التقاليد المحافظة التي تقيد رجال الدين بقيود شديدة التزمت تجاه موضوع كموضوع الحب بخاصة، وخرج بهذا العمل كذلك على تقاليد الأدب المشرقي الكلاسيكي ذاته الذي كان القدوة المثلى لأدب المغرب، اذ كان يومئذ من النادر غير المألوف في المشرق أن يتوفر كاتب على قضية وجدانية خالصة كقضية الحب يعالجها في عمل فني ذي وحدة متكاملة تستوعب مثل تلك التفاصيل الدقيقة التي تحفل بها رسالة «طوق الحمامة»، وتستغرقها كل صفحات الكتاب البالغة أكثر من مئة وخمسين صفحة بالقطع المتوسط عدا المقدمة والفهارس.


أول ما يعجبنا من براعة ابن حزم في هذه الرسالة، كونه عني عناية دقيقة بتبويبها على نحو من التناسق والتكامل يطبعها بطابع التأليف العلمي المنهجي. ويكفي للتدليل على ذلك أن نستعرض هذه الأبواب التي اشتملت عليها الرسالة، ونرى كيف رتبها ترتيبا منطقيا يوحي بأن كل باب منها أوجد في مكانه الطبيعي من حيث علاقته بسابقه وبلاحقه.

فقد قسمها على ثلاثين بابا: عشرة منها في أصول الحب، نجد فيها حديثا فلسفيا عن ماهية الحب وحقيقته في رأي المؤلف، وأبوابا عن علامات الحب بنحو من التفصيل الدقيق، وعن أنواع المحبين وأسباب حبهم وأساليبهم في العلاقة المحبوب.

ويختتم الـرسـالـة ببابين: باب «الكلام في قبح المعصية»، وباب «في فضل التعفف».. وكأنه يقصد بهذا الختام أن يخفف من أثر رد الفعل الانتقادي الذي كان يعلم أنه لا بد سيحدث عند أوساط المحافظين المتزمتين، لامعانه في معالجة موضوع الحب بمثل تلك العناية والدقة والصراحة البالغة أقصى حدودها.. ولقد أشار هو، صراحة، إلى «رد الفعل» المنتظر هذا، في قوله:

«وأنا أعلم أنه سينكر علي بعض المتعصبين على تأليفي لمثل هذا ويقول: إنه خالف طريقته، وتجافى عن وجهته.. وما أحل لأحد أن يظن في غير ما قصدته..».

ومن مظاهر المنهجية عند المؤلف، أنك تراه واعيّا كل الوعي تفاصيل طريقته التأليف والتبويب، فلا يغفل أن يدلل على هذه الطريقة في ترتيب الأبواب: «فجعلناها ـ أي الأبواب ـ على مباديها إلى منتهاها، واستحقاقها في التقدم والدرجات والوجود، ومن أول مراتبها إلى آخرها، وجعلنا الضد إلى جنب ضده، فاختلف المساق في أبواب يسيرة، والله المستعان».

«طوق الحمامة» عمل أدبي أصيل، وقد ظهر من عنوان هذه المقالة أننا نتحدث عنها بوصفها من أدب الحب في تراثنا، فما بالنا نسأل هنا إذن هل هي أدب، أم فلسفة، أم علم؟..

الواقع أن السؤال وارد، لأن ابن حزم بحكم كونه عالما ومفكرا مارس الفلسفة وتأثر تفكيره وجدله بفلسفة اليونان وفلسفة أرسطو بخاصة، وبحكم كونه صاحب مذهب فقهي جديد في الأندلس يعارض المذهب الفقهي السائد فيها ويتصدى للجدل المتواصل مع خصومه بالوسائل العلمية: الاسلامية والمنطقية والعقلية - بحكم ذلك كله، لم يستطع أن يتخلص من هذه التأثيرات وهو يكتب هذه الرسالة الأدبية، بالرغم من طابعها الوجداني بالأساس، وبالرغم من أنه كان، وهو يكتبها، إنما يعيش في عالمه العاطفي العزيز على قلبه، مستعيدا ذكريات صبـاه وشبابـه أيـام كـان ينعم بأرفـه العيش وأورف ظلال الأمن والطمأنينة والجاه والرياسة، أيام كان أبوه وزيرا للمنصور بن أبي عامر، وكانت قصور أهله في الجانب الغربي والجانب الشرقي من قرطبة تزهى بأمجادها وتتوهج بمتارفها ونعمائها من كل لون بهيج..

لقد كتب «طوق الحمامة» وهو ما بين الخامسة والثلاثين والأربعين من حياته أي في حين هو يكاد يشرف على الكهولة، ويقيم في مدينة شاطبة من مدن إمارة بلنسية إحدى الأقاليم الشرقية الأندلسية، وكان ذلك عهدا من حياته يحمل فيه - هموم التشريد ثاني مرة عن أهله ودياره في قرطبة، وينوء بذكريات المحن المتعاقبة عليه منذ زوال دولة العامريين عن قرطبة وجلاء أهله عنها مرغمين بعد خراب دورهم وأخذهم بجرائر العهد السياسي الذي كانوا من أنصاره.

في ذلك الوقت وفي تلك الحال، كتب ابن حزم رسالته الأدبية «طوق الحمامة».. أي أنه كتبها في مناخ من التوتر النفسي كان يعتصر قلبه اعتصارا.

من هنا جاءت رسالة ابن حزم عن الحب عملا أدبيا وجدانيّا تمازجه عناصر شتی من شخصية الرجل، وتؤثر فيه لحظات عديدة المصادر الزمنية الى جانب لحظات التوتر المباشرة..

فأنت تستطيع ان تقول عن «طوق الحمامة» أنها عمل أدبي متكامل، ولكن فيها ـ مع ذلك ـ. عنصر فلسفي، وعنصر علمي فقهي، وعنصر أخلاقي، غير أن هذه العناصر جاءت من قلب التجربة ـ إذا صح التعبير - وليست دخيلة عليها ، وأعني بهذا أن طبيعة العناصر التي تؤلف شخصية الفقيه والمفكر والأديب والفنان، الذي هو ابن حزم.

1964*

* باحث وأكاديمي لبناني «1910 - 1987».