تستمر الأزمات وتطول في عموم المنطقة العربية. بعضٌ منها كان أو لا يزال صراعات مسلحة، بلغت حدّها الأقصى، ولم تحقّق حسما عسكريا ناجزا يمكن أن يفرض حلّا أو تطبيعا سياسيا (سورية واليمن)، وبعضٌ آخر شهد اقتتالا، انتهى أيضا دون حسم، ولا يزال يحاول معالجة التداعيات، متقلّبا في توتّرات تبعد أي استقرار (العراق وليبيا والسودان).

ويمكن إضافة ثلاث أو أربع حالات ذات خصوصية:

فلبنان أنهى حربه الأهلية قبل ثلاثة عقود، وبدا لفترة أنه خرج منها نهائيا، لكن أزمته السياسية / الاقتصادية الراهنة أعادت طرح الأسئلة الصعبة عن وحدة البلد ومصيره.


وتونس دخلت مرحلة انتقالية بعد إسقاط نظام استبدادي في 2011، ولم تؤدِّ التسويات المرحلية إلى توافق على هويّة النظام، وترشيد التنافس على السلطة.

أما فلسطين، فأفسد الانقسام الداخلي قضيتها ومشروعها الوطني، وهو يسهم حاليا في تلاشي اعتبارها قضية العرب «المركزية».

أما الأزمة المستجدّة، فتتمثّل في إقدام الجزائر على قطيعة غير مسبوقة مع المغرب.

باستثناء هذه الأزمة الأخيرة، فإن ثمة مشتركات بين الأزمات الأخرى، أبرزها استعصاء الحلول الداخلية، وتعقيد مستدام لمعادلاتها. ونظرا إلى حدّة الانقسامات السياسية والاجتماعية، وأحيانا الطائفية، وارتباطها باستقطابات وتدخّلات خارجية، فإن قرارات مجلس الأمن ومناشداته لا تلقى استجابة أو تتعرض للتحريف، وبات المبعوثون الأمميون يراكمون الفشل والإحباطات، فحين ينجح أحدهم جزئيا لا يستطيع استكمال العملية التي جهد في بنائها (ليبيا / الانتخابات 2021 - اليمن / اتفاق استوكهولم 2018)، وحين يلجأ أحدهم إلى اختزال مهمته في خطوة واحدة قد يُبنى عليها (سورية / اللجنة الدستورية) يجد أنه قد خُدع.. هناك دائما حلقة أو حلقات مفقودة، وهناك دائما مستفيدون لا مصلحة لهم في أي حلّ ينشد السلام أو يرمي إلى إحياء «الدولة»، وغالبا ما يكونون عسكريين حريصين على أن يبقي الحل سلطتهم ويعززها، أو إسلاميين متعطشين للسلطة، أو مدنيّين يغلّبون مصالحهم على أوطانهم.

لم تعد أسباب هذه الأزمات الثماني داخلية بحتة، كما كانت عندما بدأت (شعوب في مواجهة أنظمة فاسدة ومستبدّة)، بل اختلط فيها الإقليمي مع الدولي، وأصبحت تتطلّب اصطفافات خارجية صعبة وغير مضمونة، فبعدما كان الاتجاه الغالب غربيا (كل قوافل الهجرة واللجوء تروم بلوغ أمريكا وأوروبا)، تكثر الدعوات إلى الاتجاه شرقا، كما لو أن روسيا والصين خياران «إنقاذيان»، أو كأن إيران ملاذٌ جذاب فقط لأن الأفغان يفرون إليه من «طالبان» ومن المجاعة.

لكن استعصاء التوافقات بين الأقطاب الدوليين، وبينهم وبين الأقطاب الإقليميين، يجعل حلّ الأزمات العربية مؤجّلا إلى حد يصحّ معه التساؤل: هل يُراد فعلا حلّها أم تركها تشكّل الوضع العربي كما يُراد له أن يكون؟.

ففي غياب دور أو إرادة عربيين، تُعلَّق الآمال، عبثا، على هذا الطرف الدولي أو ذاك. كما أن ندرة الزعماء الوطنيين رمت البلدان المأزومة في متاهات بلا منافذ، وجعلت معادلات التسوية أشبه بكيمياء متضادة.

فالمعضلة في سورية أن النظام لا يرى حلّا مناسبا غير بقائه في السلطة، ومنحه شرعية واعترافا دوليين، وأموالا لإعادة الإعمار، بعد غضّ النظر عن جرائمه، وتشريده أكثر من نصف الشعب بين مهجّرين ولاجئين.

هذا اللاحلّ يناسب النظام، ومعه روسيا (مبعوثها ألكسندر لافرنتييف أجهز أخيرا على عمل اللجنة الدستورية، وبالتالي على القرار 2254)، وإيران التي تتوسّع حاليا في تغيير الخريطة الديموغرافية.

أما اليمن، فدخل فصلا آخر من الحرب على الرغم من أن الحل السياسي كان متاحا منذ محادثات الكويت في 2016، لكن إيران أوعزت للحوثيين برفضها.

وقبل أسبوع، أبدى وزير خارجيتها المتشدد تأييدا لما كان مطروحا خلالها، أي «حكومة تشمل الأطراف جميعا»، مستمرا في تجاهل الحكومة الشرعية.

تريد طهران لحوثييها أن يسيطروا على كل اليمن، وتدرك أنهم لا يستطيعون أن يحكموا البلد، لذا فهي تغذي استمرار الحرب إلى أن تحصل على مكاسب يمنية مقابل إنهائها.

في ليبيا تنتقل الأزمة من خريطة طريق إلى أخرى، بينما يزداد الانقسام، سياسيا وعسكريا ومناطقيا، ويكاد يصبح تقسيما ينتظر القوننة والتأطير.

المعادلة السحرية لم توجد بعد، وإن وجدت لا تستطيع صهر العسكريين والميليشيات والمدنيين و«الإخوان» في نظام واحد. كما لا يمكن توقّع معجزة «وفاقية» داخلية ما لم تكن نتاج «توافق» مستحيل بين الأمريكيين والروس والأتراك، وغيرهم من المتدخّلين والمرتزقة.

وفي العراق تحاول «الدولة» إثبات أنها المرجع الوحيد لكل المكوّنات، فهناك حكومة وبرلمان وقوات مسلحة ودستور وقوانين، يُفترض أنها منضوية في «عملية سياسية»، وإذ تحاول الأطراف السياسية، وحتى الميليشيات، الإيحاء بأنها تلعب هذه اللعبة إلا أنها تشترط الحصول على حصصها الوزارية، لتمكينها من مواصلة التموّل عبر نهب الدولة.

هناك دعم أمريكي وغربي وعربي للدولة، لكن هناك «المشروع الإيراني»، الذي لا يعترف إلا بالميليشيات المجنّدة لدى «الحرس الثوري» في حربه لإخراج أمريكا من المنطقة.

وفي السودان وقّع العسكريون مع المدنيين على اتفاق لـ«الانتقال الديمقراطي». وعلى الرغم من أنه كان واضحا بإعادتهم إلى ثكناتهم، فإن العسكريين انقلبوا عليه، ويطالبون الآن بنظام يبقيهم في السلطة لقاء سماحهم للمدنيين بإدارة الاقتصاد والخدمات، شرط ألا يتدخّلوا في قراراتهم السياسية، وألا يحاسبوهم على بزنسهم وامتيازاتهم وفساد أجهزتهم. لكن الانقلاب أوقعهم في مأزق، إذ إنهم لا يستطيعون تحصيل الدعم الدولي لمجرد أنهم يضمنون الأمن، ولا المجازفة باستعادة نموذج عمر البشير للحكم عبر «الإخوان المسلمين».

أما لبنان فبات الآن بؤرة «المشروع الإيراني»، الذي اقتاده إلى أزمة شاملة، فتكت بالدولة، وهزّت النظام، وأهلكت الاقتصاد، وزعزعت التعايش بين المكوّنات. وإذ يستغل «حزب إيران / حزب الله» الأزمة في تأمين سيطرته الكاملة، فإنه يبدو كمن فتح بازارا مع حلفائه، للعب بخريطة البلاد.

لا يطرح هذا «الحزب» حلّا سياسيا، بل يستخدم سلاحه في إقامة نظامه، وبالتالي فهو يكرس حالا من «الاحتلال الإيراني».

لإيران دور رئيسي أيضا في تعميق الانقسام الفلسطيني، كما في إفشال سلسلة اتفاقات لـ«المصالحة»، إذ إن سلطة «حماس» في غزة وجدت لتبقى، ولأن تكون السلطة الفلسطينية الوحيدة، وإن لم يعترف بها أحد.

وأخيرا.. قد تبدو أزمة تونس داخلية، فالإسلاميون واصلوا المراوغة بالنسبة إلى هوية النظام، ويستغلّون حال التشرذم لدى خصومهم، لذلك استعاد قيس سعيّد التفاهم مع قوى الجيش والأمن على صيغة نظام رئاسي لا بد من دسترتها.

ولا شك أن المؤثرات الدولية والإقليمية حاضرة، لكنها لا تنجد اقتصادا بات على شفير الهاوية.

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»