لعل الإشارة الأولى العلنية إلى تطور كهذا جاءت من وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين، خلال مؤتمر صحفي في طهران مع نظيره حسين أمير عبداللهيان، ولم يرد الأخير بالنفي أو الرفض، وهو القريب من صقور المحافظين و«الحرس الثوري»، بل أوضح أن الأمريكيين «يبعثون برسائل غير مكتوبة ويتلقون الرد عليها»، مبدياً رغبة طهران في التوصل إلى «اتفاق جيد». هناك جديد، إذاً، في اللهجة الإيرانية، وإفصاح عن وجود اتصالات سرية يجري بعض منها تجرى عبر وفدي التفاوض في فيينا، وبعض آخر عبر قنوات خلفية. قبل ذلك بدأت تتداول معلومات عن رسالة تلقتها واشنطن من القيادة الإيرانية معبرة عن المرشد علي خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي، مفادها أنها «جدية» في التفاوض وتسعى إلى اتفاق. هذه المعلومات ربطت بالإعلان عن زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان لإسرائيل، مترافقاً مع تقصد اعلان عدم استجابة الرئيس جو بايدن طلب رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت إجراء مكالمة هاتفية معه.
استنتجت واشنطن من فحوى الرسالة الإيرانية والاتصالات السرية أن الخيار الدبلوماسي لا يزال ممكناً، وهذا يدعم موقف فريق بايدن في مواجهة ديمقراطيين وجمهوريين يدعون إلى التشدد مع إيران، وكان الجمود في فيينا حفز أعضاء في الكونجرس على التشاور في تشريع يضاعف التعقيدات أمام الإدارة، فالحزبان يعارضان رفعاً كاملاً للعقوبات، واللوبي الإسرائيلي يضغط في هذا الاتجاه. في المقابل، تكاثرت المؤشرات إلى وجود تباين في صفوف المحافظين في إيران، بين من يريدون التخلص من العقوبات ولو تطلب العودة إلى اتفاق 2015 ومن يدعمون الحفاظ على التقدم المحرز في البرنامج النووي ومواصلة التشدد في فيينا حتى نيل تنازلات أمريكية مسبقة قبل التفاوض على طريقة إحياء الاتفاق. وإذ انعكس الاتجاهان في الصحافة الإيرانية فقد تبين أيضاً أنه كان ممكناً البناء على ما حصده «وفد حكومة روحاني»، بدلاً من إضاعة الوقت ثم العودة إلى فيينا بنهج متشدد.
في هذا السياق أمكن لطهران أن تتلمس «اللاجدوى» من إستراتيجية التفاوض التي اعتمدها وفدها، برفع سقف المطالب والشروط، إذ إنها لم تحدث اختراقاً، بل فشلت عملياً، خصوصاً أن روسيا والصين لم تبديا أي دعم أو تفهم لها، وسألتا كيف يمكن طهران أن تمانع عودة أمريكا تلقائياً إلى الاتفاق وأن تطلب منها في الوقت نفسه إلغاء العقوبات كافة. بدا التناقض عبثياً، وحين طلب وفد علي باقري كني وقفاً «مؤقتاً» للتفاوض كانت تأكدت لديه الحاجة إلى إستراتيجية أخرى، أو ربما لأن الاتصالات الخلفية عبر المفاوض الأمريكي روبرت مالي بدأت تحقق نتائج. كان واضحاً أن الأهداف التي توخاها الإيرانيون منذ بداية المفاوضات في أبريل الماضي، ككسب الوقت و«إهانة» واشنطن وإظهار أنهم يقودون التفاوض، استنفدت بشكل أو بآخر خلال الجولات الست الأولى، لكنها كانت استعراضية ولم تحرك العقوبات. أما الإصرار على التشدد في الجولة السابعة فأنذر إيران بأنها ستتحمل مسؤولية الفشل، وما يتبعه من تداعيات أدناها عودة أمريكية إلى «الضغوط القصوى» وأقصاها مواجهة عسكرية ربما يريدها «الحرس الثوري» لكن إيران نفسها لن تكون بمنأى عن نتائجها الكارثية.
قبل الذهاب إلى المرحلة التالية ارتأت إدارة بايدن ضبط «سلوك» إسرائيل. في الأسابيع الأخيرة لم تنزعج واشنطن من حديث إسرائيلي متصاعد عن ضرب المنشآت النووية، بل استثمرته. لكن «المنعطف الحاسم» و«الإستراتيجية المشتركة»، كما وصفهما سوليفان، استوجبا إبلاغ إسرائيل بأن ثمة مفاوضات مباشرة ستجرى مع إيران، ومطالبتها بأداء منسق ومنسجم. ربما استطاع مستشار بايدن إقناع إسحق هرتسوغ وبينيت وبيني غانتس بمنح الدبلوماسية فرصة، لكن إسرائيل ستواصل استعداداتها، فهي وواشنطن تريدان جلاء المسار سريعاً، كل منهما لأسبابها الداخلية. لم يفصح عن الأفكار التي جاء بها سوليفان لكنها سرعان ما سيعرف إذا كانت المفاوضات المباشرة ستذهب أبعد من الشأن النووي، لتتناول البرنامج الصاروخي وسياسات إيران الإقليمية، إذ كانت واشنطن تعمدت منذ فترة تجاهلهما. وكانت الخلاصة في تصريح يائير لبيد بأن إسرائيل ستدعم «اتفاقاً جيداً». وهذا جديد إسرائيلياً.
الأولوية، بحسب المصادر ستكون لعودة الولايات المتحدة إلى اتفاق 2015 ليصبح ممكناً البحث في «التزامه» تدريجاً من الجانب الإيراني، وبالتالي في رفع تدريجي للعقوبات من الجانب الأمريكي. ويجري الحديث عن إصدار «إعلان نيات» متزامن من الطرفين، كتمهيد لمناقشة الاتفاق والتعديلات الممكنة عليه. هل تسقط طهران مطالبتها الثلاثية (رفع كل العقوبات دفعة واحدة، والتعويض عن خسائرها من العقوبات، وتعهد الإدارة الأمريكية عدم الانسحاب ثانية من الاتفاق)، وهل توافق على نهج «الخطوة خطوة» للتثبت من الإجراءات المتبادلة، وهل هي مستعدة لتعديل اتفاق 2015 وتشديد قيوده، واستطراداً لمناقشة الملاحظات الأمريكية على برنامجها الصاروخي وسياساتها الإقليمية؟ كل الأسئلة مطروحة في هذه المرحلة التي تذكر بافتتاح المفاوضات المباشرة في 2013 التي أثمرت الاتفاق النووي بعد عامين، لكنها تركت كثيراً من التساؤلات حول تفاهمات جون كيري - محمد جواد ظريف وتوقعات باراك أوباما الغامضة والمتكررة بأن الاتفاق سيؤدي إلى «تغيير في سلوك إيران الإقليمي».
المفاوضات المباشرة ليست بالضرورة خبراً طيباً، فقد تطول لمجرد «إنقاذ اتفاق 2015»، لكن لقاء أي أثمان إقليمية؟ ربما تتكرر سيناريوات أعوام أوباما السيئة، أو تدفع في المقابل إلى تسريع «الحوارات» الجارية مع إيران. قد تلتقي المصالح الأمريكية والإسرائيلية والإيرانية، لكن هل يحقق التقاؤها المصالح الخليجية والعربية أم تترك هذه للصدفة؟ ما يفترض أن يطرح مع إيران اليوم لا يختلف عما كان يعرضه دونالد ترمب قبل الانسحاب من الاتفاق وبعده، لكن طهران رفضته وحصدت سيلاً من العقوبات.
*ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»