بدت الظروف الداخلية والخارجية وستبقى غير مواتية لترك الانقلاب يأخذ مجراه، كما أن مظاهر التماسك التي أبداها الجنرالات طوال العامين الماضيين حتى الآن لم تنف سعي «حميدتي» مثلاً إلى فتح قنوات خارجية خاصة به، ولا يشك عارفوه بأنه يطمح إلى رئاسة البلاد، على الرغم من أن ثمة ملفات تتعلق بسلوكه في دارفور وقد تستخرج من الأدراج لاستبعاده. لكن عقدة العسكريين تكمن في أن نظامهم لن يكون في أي حال بقوة نظام عمر البشير قبيل تضامنهم لإسقاطه. وإذ أوحى مسارهم بعد ذلك بأنهم استوعبوا درساً استمر ثلاثة عقود ودفع السودان والسودانيين ثمنه غالياً، إلا أنهم اعتبروا أن إطاحة البشير تمنحهم «حقاً» مكتسباً دائماً في تسيد السلطة بأي صيغة يمكن التوصل إليها، بالتوافق أولاً على وثيقة دستورية وببث الفرقة بين خصومهم المدنيين ثانياً، وباعتقال هؤلاء الخصوم وإلغاء المواثيق الموقعة معهم ثالثاً. قال الفريق البرهان، إن تحرك الجيش (لا يسميه انقلاباً) جاء لتصحيح «المسار الانتقالي»، لكن مأزقه يضطره الآن للبحث عن تسوية ما مع المدنيين لتصحيح مسار الانقلاب.
على مضض، أخرج العسكريون حمدوك من الاعتقال إلى الإقامة الجبرية، بعدما ضغطت واشنطن وطلبت من دول عربية التوسط للإفراج عنه. وعلى الأثر بدأت الاتصالات لبلورة سيناريو يتمحور حول عودة حمدوك رئيساً لحكومة جديدة. هناك قبول عام للرجل في السودان، لكن ليس إلى حد أن يعقد أي صفقة مع العسكريين، فالثقة بينه وبينهم انعدمت ثم أنه كان قبل منصبه على أساس أن هناك توافقاً على مرحلة انتقالية تنتهي بالانتخابات وعودة العسكر إلى الثكن ليصبحوا دستورياً تحت إمرة سلطة تنفيذية ورقابة سلطة تشريعية، وهي هذه العودة عقدة العقد. لا يستطيع حمدوك أن يتنكر للمدنيين ولـ«الثورة» أو أن يكون واجهة لتسوية تبقي الحكم المدني أسيرة سلطة عسكرية تطيحه في أي وقت، أو أن يكون رئيس حكومة تكنوقراطية من دون أي سند دستوري بعدما ألغى الانقلابيون «الوثيقة». أي رئيس حكومة آخر سيكون خيار العسكريين وسيصعب عليه إثبات صدقيته داخلياً وخارجياً. إذاً، ستكون لحمدوك شروط ليعود متمتعاً بالقبول نفسه وضامناً رزمة استحقاقات جوهرية لاستعادة مسار الانتقال السياسي.
أهم هذه الاستحقاقات تشكيل المجلس التشريعي الانتقالي والمحكمة الدستورية وما يفترض أن يرافقهما من إجراءات كتعيين رئيسين للقضاء وللجنة الإشراف على انتخابات 2023. كل من هذه الخطوات دونها صعوبات وتعقيدات لكنها ممكنة، فإنجازها ينصف القوى المدنية ويقدم لها بديلاً من تنافسها على الحقائب الوزارية، إذ يتيح لها المجلس التشريعي صوتاً مسموعاً وطلب الاطلاع على مختلف القطاعات بما فيها العسكرية، والأهم أن هذا المجلس سيخرج السلطة التشريعية من أيدي العسكر. لا يقل أهمية أيضاً أن يكون للحكومة التكنوقراطية المستقلة عن الأحزاب دور حقيقي في كل ما يتعلق بالدولة، بدل أن تستمر الحال كما كانت قبل الانقلاب حين كان العسكريون يعملون كحكومة موازية تتخذ مبادرات خارجية وقرارات داخلية من دون التفاهم أو حتى التنسيق مع الحكومة المدنية في شأنها، وكان لافتاً مثلاً أن زيارات حمدوك اقتصرت على عواصم غربية وإفريقية، فيما كان الجنرالات يزورون العواصم العربية.
غير أن الاستحقاق الأهم يتعلق بالجيش، وعنوانه المكتوب إعادة الهيكلة، أما غير المكتوب فهو أن يدخل العسكريون في مراجعة شاملة لسلوكهم ولإدمانهم السلطة منذ استقلال السودان حتى اليوم، أقله لمواكبة التغيير الذي لمسوه في أداء القوى المدنية وأجيالها الجديدة. إذ أن تجربتهم، قبل البشير ومعه، أشعلت حروباً أفضت إلى تقسيم السودان ورسخت أنماط فساد وتسلط حالت دون بناء دولة مؤسسات واقتصاد مستقر، لذلك جاءت الثورة الشعبية وسلميتها بتصميم شبابي على تغيير يقطع مع كل سلوكات الحكم التي عرفتها البلاد.
فالظاهرة التي لا تسلط الأضواء الإعلامية عليها هي أن قيادات الشارع من الشباب عادت مرة أخرى، كما في ديسمبر 2018، إلى تخطي القوى المدنية المعروفة، ومنها الأحزاب و«تحالف الحرية والتغيير» و«تجمع المهنيين» التي لعبت وتلعب الآن دور المساندة. وقد برهن شباب الشارع التصاقاً بقواعدهم وقدرة على استعادة زمام المبادرة، إضافة إلى امتلاكهم «جدول تصعيد» واستراتيجية مشاغلة وإرهاق لقوى السلطة برزت في تظاهرات 21 أكتوبر ثم 30 أكتوبر، وسيواصلون تحركهم وصولاً إلى 17 نوفمبر المتعارف عليه كموعد مفترض لتسليم العسكريين رئاسة المجلس السيادي إلى شخصية مدنية. عملياً، تجاوزت قيادات الشباب هذا الموعد لكنها ستستغل رمزيته، وباتت بوصلتها موجهة إلى الاستحقاقين المحوريين للصراع الحالي (المجلس التشريعي الانتقالي، ومن بعده الانتخابات). افتقد العسكريون، بعد انقلابهم، الحاضنة الإسلامية التي أطاحوا رموزها، بدءاً بالبشير، ولا يستطيعون استعادتها. لكن بعضاً من حلفائهم يحاول وراثة زعامة الإسلاميين، لا سيما جبريل إبراهيم (زعيم حركة «العدل والمساواة» في دارفور) الذي تصدر وهو وزير المال في حكومة حمدوك جبهة المطالبين بحل حكومته و«توسيع المشاركة» في الحكومة البديلة. لا يطالب إبراهيم بتعزيز الحصة التي نالتها الحركات المسلحة فعلاً (25 في المئة)، لكنه يدعو إلى إشراك الإسلاميين على حساب الأحزاب المدنية. أما قيادات الشباب والأحزاب فلا ترى عودة للإسلاميين إلا عبر مشاركتهم في الانتخابات.
* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»