مبدئياً، هناك حل للأزمة في السودان، بالحوار استناداً إلى الوثيقة الدستورية التي توافق عليها المكونان العسكري والمدني، وهي في جوهرها إقرار بتسليم الحكم إلى المدنيين في نهاية المطاف. واقعياً، لا يمكن حل الأزمة، فالتوافق والثقة بين المكونين تزعزعا، وكل منهما يتهم الآخر بضرب استحقاقات المرحلة الانتقالية أو يستقوي بعلاقاته الخارجية على الآخر. أما الحوار الذي لا يزال رئيس الحكومة عبدالله حمدوك يدعو إليه فلا يبدو أنه يشق طريقه، وليس واضحاً بعد ما إذا كانت الدعوة الأمريكية إلى التفاهم ستساهم في تفعيل «خلية الأزمة» التي تضم ممثلين عن مختلف الأطراف، بمن فيهم المنشقون عن قوى الثورة المنضوية في تحالف «قوى الحرية والتغيير». قبل الحوار أو خلاله ينبغي إخراج الأزمة من الشارعين المتواجهين، واحد يدعو إلى حل الحكومة ليتولى العسكريين السلطة، وآخر يتمسك بالحكومة وبتسليم المدنيين السلطة بدءاً برئاسة مجلس السيادة خلال نوفمبر المقبل.

أصبحت الأزمة بالأحرى صراع إرادات بين القوى اللاعبة:

1) قادة الجيش الذين لا يتصورون أنفسهم داخل ثكنهم، ولا تنقصهم الذرائع لتمديد فرض يدهم العليا على الحكم، بل استطاعوا أخيراً شق تحالف «قوى الحرية والتغيير» باستقطاب بعض من مكوناته. وبموازاة ذلك يوحي هؤلاء القادة بأن الجيش «جيوش» على رغم صورة التماسك التي يعكسها عن حاله.


2) قوى الحراك المدني التي ترى أن الفرصة التاريخية للتخلص من عسكرة الحكم لا تزال سانحةً، لكن التنافسات والانقسامات بين قوى «إعلان الحرية والتغيير» أدت إلى إضعافها، وبالتالي إلى إضعاف الحكومة التي تراجع القبول العام بها بسبب أخطاء وتنازلات ارتكبتها في التعامل مع العسكريين.

3) الحركات المسلحة، خصوصاً الدارفورية، التي وقعت اتفاقات سلام مع الخرطوم مطلع أكتوبر 2020 وفرضت تعديلات على أجندة الفترة الانتقالية وصيغ توزيع السلطة لكنها ظلت غير راضية عن حصص السلطة التي حصلتها لقاء إنهاء تمردها على الدولة، ويبدو أنها وجدت لدى العسكريين آذاناً صاغية إلى مطالبها فانحازت إليهم وشكلت تيار «ميثاق الحرية والتغيير» منشقة عملياً عن قوى الثورة بعدما كانت جزءاً منها أيام معارضتها للنظام السابق.

4) يمكن إضافة «نظارات البجا»/‏ قبائل شرق السودان التي برزت، أخيراً، بإقفال الطرق والموانئ الرئيسية بحجة المطالبة بحصتها من السلطة، ولم يعد خافياً أنها تلعب التوتير الأمني والاقتصادي لمصلحة العسكريين.

تعقيدات كثيرة تكتنف خريطة القوى هذه، لكن ثمة تعقيدات أخرى تجدر الإشارة إليها نظراً إلى الأدوار التي تلعبها في الأزمة: داخلياً، هناك أطراف استبعدت تلقائياً مع إطاحة نظام عمر البشير، ومنها حزبه «المؤتمر الوطني» وحليفه اللدود «المؤتمر الشعبي» (حزب الترابي) وأطراف أخرى تعرف عموماً بـ«الإسلاميين»، لكن استبعادها لم يلغ مصالح كانت لها في الدولة ولا أنصاراً ومراكز النفوذ وشركات داخل أجهزة المؤسسة العسكرية. وقد استمال عسكريو النظام الانتقالي «فلول النظام السابق» هؤلاء كورقة ولو محروقة يمكن استخدامها في الشارع ضد القوى المدنية التي أسقطتهم، ويشارك «الفلول» في الاعتصام الموالي للعسكريين جنباً إلى جنب مع الحركات المسلحة التي حاربوها.

في المقابل، تثير لجنة تفكيك نظام البشير التي يرأسها عضو المجلس السيادي محمد الفكي سليمان قلقاً وغضباً لدى العسكريين و«الفلول» وأطراف أخرى، خصوصاً أن البرنامج الحكومي لإصلاح الاقتصاد يطالب على الأقل بالاطلاع على الأوضاع المالية للشركات التي يديرها الجيش، تمهيداً لإدراجها في مالية الدولة. وما يثير الحساسيات أيضاً أن برنامج التفكيك وإزالة التمكين يتطلب في بعض جوانبه إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية لتصبح تحت إشراف المدنيين، علماً أن العسكريين كانوا ولا يزالون مطالبين بإعادة هيكلة الجيش والأجهزة لكنهم لم يحققوا فيها أي تقدم في هذه المهمة.

أما خارجياً، فإن الأدوار المؤثرة كثيرة لكنها لا تعمل على موجة واحدة، وإذا كانت تبدو علناً مجمعة على ضرورة «إنجاح المرحلة الانتقالية» إلا أنها تتحدث مع كل من المدنيين والعسكريين بمعطيات مختلفة لا تخلو من التناقض. فالقوى الخارجية، غربيةً وعربيةً، لا تزال تولي أهمية للشأن الأمن وبالتالي فهي تحتاج إلى علاقة منظمة مع الجيش وتمده بالأسباب التي تشجعه على البقاء جزءاً أساسياً من السلطة، أو على إطالة الوضع الانتقالي بذريعة مساهمته في بناء الاستقرار الداخلي، لذلك يلح الغربيون على منعه من الانقلاب والانفراد بالحكم لكنهم لا يمانعون صيغة «توافقية» تسمح له بالبقاء على رأس السلطة. في الوقت نفسه تريد القوى الخارجية تحسين الوضع الاقتصادي لتهدئة الاضطراب السوداني، إلا أن مقاربتها للوضع السياسي تبدو متفرقة وغير متناغمة، فهناك من لا يرتاح إلى تكريس إمكان إسقاط حاكم عسكري بثورة شعبية، أو إلى تأسيس حكم مدني ديمقراطي على أنقاض حكم عسكري.

من المتفق عليه أن الخلافات المتراكمة بين مدنيي المرحلة الانتقالية وعسكرييها تفجرت مع المحاولة الانقلابية صباح 21 من سبتمبر الماضي. فهي محاولة لا تزال ملتبسة وبقيت أسرارها لدى العسكر، ويستدل من ردود فعل رئيس الحكومة حمدوك وغيره من السياسيين المدنيين أنهم يشتبهون بأنها إرهاص أراد العسكريون البناء عليه واستغلاله لحشر الحكومة، واستطراداً لنسف المرحلة الانتقالية من أساسها، وإطاحة مبدأ الدولة المدنية الذي قامت عليه. فمن جهة تعني المحاولة الانقلابية أن ثمة مخاطر أمنية تقتضي بقاء الجيش متصدراً، ومن جهة أخرى أدى تمرد «نظارات الشرق» (المتناغم مع العسكر) إلى مفاقمة الوضع الاقتصادي ما يعني أيضاً أن الحكومة «فشلت» وبات تغييرها مبرراً للمجيء بأخرى لا تعبر عن قوى «ثورة ديسمبر 2018«.

يريد العسكريون أن يبدو انقلابهم «الزاحف»، بحسب ياسر عرمان (أحد مستشاري حمدوك)، كأنه «مدني» أو يمدهم بـ«شرعية مدنية». فحلفاؤهم من متمردي الغرب السابقين أصبحوا «مدنيين» بفضل اتفاقات السلام لكن سلاحهم لا يزال في أيديهم وعقولهم، أما متمردو قبائل البجا في الشرق فهم «مدنيون» مسلحون يرفضون حكومة المدنيين في الخرطوم، وأما «الإسلاميون» و«الفلول» فهم خليط مدني - عسكري أنتجته منافع نظام البشير وينسجم أكثر مع دولة يحكمها العسكر. لذلك يعتبر العسكريون أنهم توصلوا إلى تغيير الخريطة السياسية، وأن أي حل للأزمة الراهنة بات يتطلب تعديل توافقات المرحلة الانتقالية.

*ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»