تُظهر معارك مأرب في اليمن جانباً من الأسلوب الإيراني في التعاطي مع جديد السياسة الأمريكية للمنطقة: العودة إلى الاتفاق النووي، الاستعداد المشروط للتفاوض، الضغط لرفع العقوبات، تكريس وجود الميليشيات الموالية لترسيخ النفوذ الإقليمي... فالحوثيون يحاولون منذ عام اجتياح محافظة مأرب للسيطرة عليها، وبالأخص الاستيلاء على حقول النفط، لكنهم فشلوا. قبل ذلك كانت هجماتهم في المحافظات المجاورة، لا سيما الجوف، دفعت إلى مأرب بعشرات آلاف اليمنيين الذين أصبحوا لاجئين في بلادهم. وبالنسبة إلى الحوثيين، يشكل الظفر بمأرب «انتصارا» لازما وضروريا ينبغي الحفاظ عليه، أولا، لضمان سيطرتهم على اليمن الشمالي، وثانيا، للتحكم في أي تسوية سياسية.

مثل هذا المآل لا يمكن أن يرضي اليمنيين، وبالتالي لن يكون مشروعا لدولة مستقرة ومجتمع يعيش حياة طبيعية. لكن إيران لا تفكر في استقرار أي من البلدان التي تدخلت فيها وعسكرت شرائح من أبنائها لتكون منظومة للهيمنة عليها. هذه هي الحال في العراق وسوريا ولبنان وغزة، وهو ما كانت إيران تتوعد به بلدانا أخرى لو استطاعت أن تسمم تعايش مجتمعاتها أو تستكمل اختراق مؤسساتها. عندما تتحدث إيران عن «مصالح» أو «استثمارات» أو «حماية أضرحة» هنا وهناك، فإنها لا تعني فقط أن يكون لها «نفوذ» بل أن يكون أتباعها هم الحكام الفعليون، أو على الأقل أن يكون الحكام تحت رحمة قتلتها ودمى في أيديها.

عندما قصفت طائرات أمريكية، أخيرا، مواقع لـ«كتائب حزب الله» العراقي في البوكمال داخل الأراضي السورية، بالقرب الحدود مع العراق، بدت إيران مستهجنة واتصل وزير خارجيتها بنظيره السوري ليطلب منه إصدار إدانة للعملية، ما لم يفعله بعد أي ضربة إسرائيلية. معروف أن ذلك القصف جاء ردا على قصف مطار أربيل والقاعدة الأميركية المجاورة له، منتصف الشهر الماضي. كانت طهران نفت أي علاقة لها بالعملية، لكن واشنطن حملت المسؤولية لمجموعة موالية لإيران، ولم تول أهمية للبيان الذي أصدرته «سرايا أولياء الدم». فهذه مجرد اسم استخدم لتوقيع البيان تضليلا للتحقيق، ولم يعد خافيا للأمريكيين أو لمخابرات حكومة بغداد أن «كتائب حزب الله» هي المعتمدة إيرانيا، وبإشراف مباشر من الحرس الثوري، لإطلاق الصواريخ على القواعد العسكرية والمنطقة الخضراء حيث توجد السفارة الأمريكية، وذلك تطبيقا لـ«استراتيجية طرد الأمريكيين من المنطقة» التي أطلق شعارها مجددا غداة اغتيال قاسم سليماني مطلع 2020.


دل استهجان محمد جواد ظريف إلى أن طهران توقعت بل رغبت في ألا يوجه الرئيس جو بايدن بالرد لأنه يمر في مرحلة استرضائها لتأتي إلى التفاوض. ستواصل إيران نهج الضغط على واشنطن حتى لو تبين لها أن طريقتها في التعامل مع بايدن لن ترغمه على رفع العقوبات. وفي المرحلة المقبلة سيكون هناك دور ناشط للميليشيات الإيرانية حيثما توجد، وستضاعف طهران الاعتماد عليها لتواكب أي تطورات دبلوماسية على الصعيد النووي وما يمكن أن يتفرع عنه. فمع مجيء المحافظين المتشددين إلى الحكم ستزداد الشهور المقبلة صعوبة إذا استمرت العقوبات من دون أي تخفيف جوهري واستمر الجدل حول المدخل المناسب إلى المفاوضات، لذلك ستعمد طهران إلى التصعيد واللعب على شفير المواجهة مع الولايات المتحدة. تريد إثبات أن بايدن ضعيف وتأمل في أن يعاود التزام نهج باراك أوباما الذي جاملها وتغاضى عن ممارساتها الإقليمية ليحصل على اتفاق نووي ما لبثت ثغراته أن بررت لخلفه دونالد ترمب الانسحاب منه.

منطقيا يفترض أن يكون بايدن استوعب التجربة السابقة التي واكبها من منصبه كنائب للرئيس أوباما، ثم من موقعه كمناهض وغريم لترمب. غير أن المشكلة الحقيقية لدى الديمقراطيين أنهم لم يعترفوا يوما بأن التفاوض لمنع إيران من حيازة قنبلة نووية شكل غطاء لبنائها قنبلة أخرى لا تقل خطرا عن الأولى، وهي ميليشياتها المشحونة مذهبيا والمزودة أسلحة متطورة والحاصلة، أخيراً، على صواريخ باليستية وصواريخ ذكية. إذا لم تتم مواجهة «القنبلتين» معاً وفي وقت واحد، فإن إيران لن تجد صعوبة في التخلي عن قنبلة ذرّية سبق أن وافقت على تأجيلها ولم تحصل عليها بعد، مقابل أن تحتفظ بقنبلتها الميليشياوية التي حققت وتحقق لها معظم أهدافها ولم يسبق أن تعرضت لأي مساءلة مباشرة بسببها، وإن كانت ميليشياتها نفسها غدت تحت العقوبات ومصنفة إرهابية في معظم أنحاء العالم.

واقعياً، سبقت الشعوب المنكوبة كل الدول المعنية إلى كشف حقيقة هذه الميليشيات. اللبنانيون يصمون «حزب الله» بالإرهاب والبعض يسمونه محتلا، والجميع يتهمه بمصادرة الدولة. العراقيون لم يعودوا يرون فارقا بين «داعش» و«الحشد الشعبي»، فالأول عاش على القتل الوحشي واحتل ثلث البلد، والآخر يقتل ويهجر ويعبث بالأمن ويعطل قيام الدولة. السوريون عانوا ويعانون من جرائم الشراكة بين النظام والميليشيات التي استوردها الحرس الثوري، ويعرفون أن الوجود الإيراني في بلادهم عنوان لتعطيل أي تسوية سياسية. اليمنيون يدركون أن الحوثيين لا يريدون سوى الحل العسكري لإدامة سيطرتهم. والفلسطينيون بات واضحا لديهم أن انقلاب «حماس» في غزة كان استيلاءً على السلطة وليس مشروعا جديا لمقاومة الاحتلال، بل إن إسرائيل استخدمته لتصفية القضية الفلسطينية وتقويض أي تسوية سلمية.

كيف يمكن الولايات المتحدة وسائر الدول الكبرى أن تكرر تجربة اتفاق جديد لـ«تعطيل» قنبلة نووية غير موجودة، لتتعامل بعده مع إيران كدولة «طبيعية» يمكن عقد صفقات معها، من دون النظر إلى القنبلة الأخرى التي خربت أربع دول عربية، ولا تزال قادرة على المزيد. الكلام الأمريكي عن «معالجة» سياسات إيران الإقليمية سيبقى مجرد كلام إلى أن تحصل واشنطن، بعد وقت طويل، على الاتفاق النووي المنشود. وفي الأثناء تواصل ميليشيات إيران نشر أوبئتها وفرض الأمر الواقع، فالأوضاع في سوريا والعراق ولبنان واليمن تتشابه بضعف الدولة وتهميش الجيوش وتمزيق النسيج الاجتماعي، وستنتقل من انهيار إلى انهيار في انتظار اتفاق نووي يعيد تمكين إيران من تعزيز سطوة ميليشياتها.