بدلا من الاتصال التقليدي، بات رئيس الوزراء الإسرائيلي يتلقى رسائل شبه يومية من الرئيس الأمريكي الجديد تبلغه عودة واشنطن إلى سياسات ما قبل ولاية دونالد ترمب، سواء في مقاربة الملف الفلسطيني أو الملف النووي الإيراني. لا انقلاب على الالتزامات الأمريكية حيال إسرائيل، وعمليا لا أزمة، فلا التنسيق العسكري والاستخباري انقطع وإن خضع كسواه للمراجعة، ولا الرئيس جو بايدن أو نائبته كمالا هاريس تخليا عن «صهيونيتهما» المبدئية التي سبق أن أفصحا عنها. ولا تبدو توجهات بايدن تكرارا لبدايات باراك أوباما مع إسرائيل التي أرغمته لاحقا على التراجع عنها، بل إن بايدن يريد إنزال بنيامين نتنياهو من أعلى الشجرة الترمبية، وحتى لو اتصل به بروتوكوليا فإنه يفضل انتظار مآل محاكمته بتهم الفساد، فضلا عن نتائج الانتخابات الإسرائيلية أواخر آذار (مارس) التي سيضطر نتنياهو لخوضها هذه المرة من دون أي «هدية» أمريكية.

آخر المواقف وقد لا يكون الأخير إعلان الخارجية الأمريكية أن وضع القدس «يخضع لمفاوضات الحل النهائي»، وهو لا يشكك باعتراف ترمب بالقدس «عاصمة لإسرائيل»، ولا يشكل نقضا حاسما له، بل يذكر بما كانت حتى الإدارة السابقة نفسها تقوله للتعمية من دون أن تطبقه أو تثني نتنياهو عن إجراءاته لابتلاع القدس الشرقية. إذا ثبت بايدن على هذا الموقف فإنه يميز بين الاعتراف بالقدس كموقف أمريكي أحادي «سيادي» وبين ما يقتضيه القانون الدولي، استنادا الى التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين. هذا ما لم يفعله ترمب بل أفلت نتنياهو وزمرة المتطرفين في حكومته من عقالهم ليفعلوا ما يشاؤون، بتجاهل تام للرأي العام العربي والإسلامي، واستهزاء مفرط بالمجتمع الدولي وقوانين الشرعية الدولية.

كانت إدارة ترمب اضطرت لإيفاد صهر الرئيس جاريد كوشنر ووزير الخارجية لإقناع نتنياهو بأن الظرف غير مناسب لتطبيق خطة ضم ثلاثين في المئة من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية. وكانت تلك المرة الأولى التي أخذت فيها الإدارة في الاعتبار أن ردود الفعل الدولية لن تبقى في حدود الإدانة، فالاتحاد الأوروبي اعتزم جديا، لمرة أولى في تاريخه، فرض عقوبات على إسرائيل. كان «اتفاق السلام» بين دولة الإمارات وإسرائيل هو الإطار الذي كرس رسميا تجميد «خطة ضم الأراضي»، وشكل في الوقت نفسه تقويضا غير معترف به لـ«صفقة القرن»، برغم أن نتنياهو كرر أن الضم مؤجل وأن تجميده ليس نهائيا. من الواضح الآن أن إدارة بايدن لا تتبنى تلك «الصفقة»، والأكيد أنها لن تدعم تلك النكتة السوداء التي تتمثل بترشيح كوشنر وزلمته آفي بيركوفيتش لـ«نوبل السلام».


بطبيعة الحال يصعب الوثوق بهذه المواقف الأمريكية الجديدة إذ تبدو، من منظور عربي، «إيجابية» أو «معقولة»، لأن شيئا لا يمنع التراجع عنها، فالانحياز الكامل لإسرائيل يبقى القاعدة الثابتة في السياسة الأمريكية. لكن يجدر تسجيل أن استشهاد واشنطن بالاعتبارات القانونية، ولو لفظيا أو تكتيكيا، أصبح من «الكبائر» في نظر الوسط الحاكم في إسرائيل، بعدما ساهم ترمب في تخصيب ذهنية الإجرام وغطرسة التطرف لديها. هذا ما استنتجه انطوني بلينكن بعدما امتنع عن تزكية اعتراف ترمب بـ«السيادة الإسرائيلية على الجولان» مميزا الوضع القانوني للهضبة السورية المحتلة عن واقع أن «السيطرة على الجولان تظل ذات أهمية حقيقية للأمن الإسرائيلي» بوجود نظام بشار الأسد وتهديد إيراني في سورية. وجاء رد نتنياهو بأن «إسرائيل باقية إلى الأبد في الجولان» بمثابة توبيخ لوزير الخارجية الأمريكي، ولا يستبعد اتهامه لاحقا بـ«اللاسامية» إذا واصل محاولاته تكنيس أخطاء ترمب وبومبيو.

لا شك أن مضي إدارة بايدن في إعادة العلاقة مع الفلسطينيين واستعدادها لتجديد المساعدات لمنظمة «الأونروا»، كذلك إعلانها التمسّك بـ«حل الدولتين» كـ«تسوية وحيدة ممكنة» ودعوتها أخيرا لوقف الأنشطة الاستيطانية (كانت إسرائيل استقبلت بايدن، يوم تنصيبه، بمشروع استيطاني جديد)... هذه المواقف لم تحقق للفلسطينيين أي مكسب ولم تعد إليهم أيا من حقوقهم، ولم تمنع إسرائيل من القتل والخطف، أو من هدم البيوت ومصادرة الأراضي وإفلات المستوطنين لانتهاك حرمة المسجد الأقصى وإتلاف أشجار الزيتون، أو من قرصنة المستحقات الضريبية للسلطة الفلسطينية، بل لم تصحح بعد شروط العودة إلى التفاوض وظروفه... والأهم أن هذه المواقف لم تحدث الصدمة المطلوبة في إسرائيل بحيث تعيد نتنياهو وطاقمه إلى شيء من الرشد، وهو ما كان ولا يزال مؤملا للانسجام مع الخطوات التطبيعية التي تمت مع عدد من الدول العربية، فلا أحد يريد هذا التطبيع أو يفهمه كتزكية للاحتلال وممارساته.

بمقدار ما أن بايدن ليس متعجلا للعمل على الملف الفلسطيني، بمقدار ما أنه لا يبحث عن أزمة مع إسرائيل، فهو يريد إعادتها إلى السياق المعتاد للعلاقة بين الحليفين. وهناك سبب آخر لعدم إعطائها رعاية تفضيلية في الظرف الراهن، إذ تخوض إدارة بايدن عملية صعبة ومعقدة للعودة إلى الاتفاق النووي ولا تريد لإسرائيل أن تدخل على الخط، خصوصا أن طهران تعتمد تكتيكا استفزازيا كأنها هي التي تفرض عقوبات على أمريكا وليس العكس. لكن عودة بايدن إلى الدبلوماسية أنعشت سياسات دولية أخرى تسعى إلى تصحيح نمط ترمب بـ«الخبط العشوائي». إذ تتبنى موسكو لفكرة الدعوة إلى مؤتمر دولي تكون «الرباعية الدولية» نواته ويضم إلى الجامعة العربية ومصر والسعودية والأردن، إضافة إلى الفلسطينيين والإسرائيليين. ولم يكن المناخ الأمريكي الجديد بعيدا على بيان المجلس الوزاري العربي الذي طالب إسرائيل باستئناف «عملية السلام» واستجابة مبادرة السلام العربية، كما أنه نشط تشاور الاتحاد الأوروبي مع أطراف عربية للبحث في إحياء المفاوضات التي كان الثنائي ترمب - نتنياهو طوياها لمصلحة إجراءات «صفقة القرن». وبالتزامن تحركت المحكمة الجنائية الدولية، وبمعزل عن المسار الذي ستسلكه تحقيقاتها فإنها تنهي نظريا «تحريم» محاسبة إسرائيل على جرائمها. صحيح أن واشنطن وعواصم غربية رفضت هذه الخطوة ودانتها، لكن هذه العواصم ستبدو أكثر جدية ومسؤولية إذا ألزمت إسرائيل بـ«تغيير سلوكها»، لأن منع المحكمة من القيام بعملها سيف ذو حدين.

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»