أشبهُ الأشياءِ بالدعوة إلى الصلاة دعوةٌ تكون من معدن الصلاة، وتَنِمُّ على صوت من أصوات الغيب المحجَّب بالأسرار: دعوةٌ حيَّة كأنما تجد الإصغاء والتلبية من عالم الحياة بأسرها، وكأنما يبدأ الإنسان في الصلاة من ساعةِ مسراها إلى سمعه، ويتصل بعالم الغيب من ساعة إصغائه إليه. دعوةٌ تلتقي فيها الأرض والسماء، ويمتزج فيها خشوع المخلوق بعظمة الخالق، وتعيد الحقيقة الأبدية إلى الخواطر البشرية في كل موعد من مواعد الصلاة، كأنها نبأ جديد.

الله أكبر. الله أكبر. تلك هي دعوة الأذان التي يدعو بها المسلمون إلى الصلاة، وتلك هي الدعوة الحيَّة التي تنطق بالحقيقة الخالدة ولا تومئ إليها، وتلك هي الحقيقة البسيطة غاية البساطة، العجيبة غاية العجب، لأنها أغنى الحقائق عن التكرار في الأبد الأبيد، وأحوج الحقائق إلى التكرار بين شواغل الدنيا، وعوارض الفناء. المسلم في صلاةٍ منذ يسمعها تدعوه إلى الصلاة؛ لأنه يذكر بها عظمة الله، وهي لب لباب الصلوات. وتنفرج عنها هدأةُ الليل، فكأنها ظاهرةٌ من ظواهر الطبيعة الحية تلبيها الأسماع والأرواح، وينصت لها الطير والشجر، ويَخِفُّ لها الماء والهواء، وتبرز الدنيا كلها بروز التأمين والاستجابة منذ تسمع هتفة الداعي الذي يهتف بها إن الصلاة خير من النوم.

فتخرج كلها إلى الحركة بعد لمحة أو لمحتين، وتقول كلها: إن الحركة صلاة خفيَّة بيد محرك الأشياء، وإن الصلاة خير من النوم.


وإذا ودع بها الهاتفُ ضياءَ النهار، واستقبل بها خفايا الليل فهو وَدَاعٌ متجاوبُ الأصداء، كأنه ترجمان تهتف به الأحياء، أو تهمس به في جنح المساء، وكأنه ينشر على الآفاق عظمةَ الله، فتستكين إلى سلام الليل، وظلال الأسر والأحلام. وإنها لتسمع بالليل ثم تسمع بالنهار، تُسمع والنفوس هادئة كما تسمع والنفوس ساعية مضطربة: توقظ الأجسام بالليل، وتوقظ الأرواح بالنهار، فإذا هي أشبهُ صياحٍ بسكينة، وأقرب ضجيج إلى الخروج بالإنسان من ضجيج الشواغل والشهوات.

حي على الصلاة! ، حي على الفلاح! نعم هذا هو الفلاح جد الفلاح؛ لأن كل فلاح بغير الإيمان هو الخسار كل الخسار.

وما يُعْرَفُ وقعُ الأذان من شيء كما يُعْرَف مِنْ وقْعِه بمعزل عن العقيدة، ومعزل عن العادة والسنة المتبعة، أو كما يُعرف مِنْ وَقْعه في بدائه الأطفال، وبدائه الغرباء عن البلاد، وعن عقيدة الإسلام. ففي الطفولة نسمع الأذان، ولا نفهمه، ولكننا نميزه حين يحيط بنا بين دعوات هذه الأرض وبين صيحات اللعب، وصيحات البيع والشراء، ونؤخذ به ونحن لا ندري بم نؤخذ، ونود لو نساجله، ونصعد إليه، ونستجيب دعاءه، ويفسره المفسرون لنا بأمر الله فنكاد نفهم كلمة الأمر، ونكاد نفهم كلمة الله، ولكننا نحار في البقية ونحيلها إلى الزمن المقبل.

ثم نقضي السنوات بعد السنوات من ذلك الزمن المقبل ونحن نتعزى من حيرة الطفولة بأننا ما نزال حائرين، وإن سُمِّيت الحيرة بأسماء بعد أسماء، وأطلق عليها عنوان بعد عنوان. وفي الذكريات أصداء تكمن في النفس من بعيد، ويلتفت المرء لحظةً من اللحظات، فكأنما هو قد فرغ من سماع تلك الأصداء منذ هنيهة عابرة، ثم التفت على حين غرة؛ ليرقب مصدر ذلك الصدى الذي سرى إليه.

إن أبقى هذه الأصداء في كل ذاكرة لهي صيحة الأذان الأولى التي تنبهت إليها آذان الطفولة لأول مرة، وما تزال تبتعد في وادي الذاكرة، ثم تنثني إليه من بعض ثنياتها القريبة، فإذا المرء من طفولته الباكرة على مدى وثبة مستطاعة لو تستطاع وثبة إلى ماض بعيد أو قريب.

أما الغرباء عن البلاد وعن عقيدة الإسلام فما يلفتهم من شيء من شعائر العبادة الإسلامية كما يلفتهم صوت الأذان على المنائر العالية كيفما اختلف الترتيل والتنغيم. يقول إدوارد وليام لين صاحب كتاب أحوال المُحْدَثين وعاداتهم: إن أصوات الأذان أخَّاذة جدَّاً ولاسيما في هدأة الليل. بلال بن رباح؛ فإن كان الترجمان ممن يعون طرفاً من تاريخ الإسلام فلعله ينبئه أن المؤذن الأول،- أول من رتل الدعاء إلى الصلاة- كان الخادم المقدس الذي اصطفاه نبي الإسلام لهذه الدعوة، بلال بن رباح،صاحب الضريح الذي يشار إليه للسائح في ناحية من دمشق حتى هذا اليوم.

وقد لمسنا نحن آثار الأذان البالغ في رُوْع كثير من السائحين والسائحات الذين ينزلون ببلدتنا أسوان خلال الشتاء، أو يمرون بها في الطريق من السودان وإليه. فإنهم كانوا يَصِلون إلى أسوان وقد سمعوا الأذان مرات في القاهرة والإسكندرية، وربما سمعوه في غيرهما من البلدان الإسلامية ولكنه كان يفاجئهم بجدة لا تبلى كلما طرق أسماعهم بالليل أو النهار _ ولاسيما في أيام الجمعة.

وكان من المصادفات الطيبة أن مؤذن الجامع الأكبر بالمدينة كان حسن الصوت منطلق الدعاء يمزج الغيرة الدينية بالغيرة الفنية في أذانه، فكان يخيل إلينا وهم يصغون إليه أنهم يتسمعون هاتفاً من هواتف الغيب يطرق الأسماع في وقت رتيب، أو يترقبون طائراً من طوائر الهجرة التي تأتي في الأوان ولكن كما يأتي كل شيء غريب.