في جلسة حميمية وبنبرة آسية يتعجب «مثقف» من الهراء غير المحتمل في الساحة الثقافية، من البودكاسات التي تخلط الأخضر بالأصفر ممن يهرف باسم الثقافة والتخصصات المتشعبة عن الفكر والعلوم المختلفة. أما وسائل التواصل فالكلام عنها أقرب للغثيان من احتمال الكلام عنها.. هكذا يقول..

صديقنا «المثقف القديم» يسمع البودكاسات، ويستمع إلى أصدقائه القدامى الذين ينفذون على المتلقي من هذا الطريق إلى ذاك الزقاق ويهز رأسه: «الأولى أن يترفع زملاؤنا عن مزاحمة الرعاع ويجدوا لأنفسهم طريقة أفضل، كالتأليف والظهور في التلفاز والقنوات الرصينة..».

وبذلك نطقت فكرة الناقد الغذامي «سقوط النخبة وبروز الشعبي». فالزمن بطبيعة التواصل المهول والذكاء الاصطناعي وعصر الصورة والوجبات الثقافية السريعة، فُرضت صور وأشكال الثقافات غصبًا عن هذا المثقف المتباكي على مكانته العلمية بعدما كان يكتب في الجريدة الفلانية ردحا من الزمن و «صُبرة» لا يحيد عنها ولا ينقشع إلا بعد تململ القراء وتسخين الطبيخ البائت، فهو يتباكى على نفسه لا على غيره..


أما أصدقاؤه فرضوا بالواقع وتكيفوا، وهيأوا لأنفسهم أماكن عبر المنصات الشهيرة بدءًا من اليوتيوب إلى تويتر وانتهاء بالواتس، إلى أن تغلغلوا في حضن القارئ، وفي غرفه الخاصة ومقعد سيارته وكرسي عمله. بل إن بعضهم زاحموا، وإن ضاعوا، بين «مشاهير الفلس» كما يسميهم «مثقفنا القديم» حتى تقزّمت قاماتهم بينهم، وظهرت أرقام المتابعات متدنية مقارنة بغيرهم ممن ينادونهم بالتافهين والتافهات.. الأمر الذي أسخط هذا الكاتب وذاك، وتجاهل فكرة أن الشهرة بداهة للشعبي وليس النخبوي، كأن يكون ناصر القصبي ومحمد نور ومحمد عبده أكثر صيتا وشهرة من إبراهيم البليهي وسعد الصويان وابن عقيل الظاهري..

هذا المثقف المتباكي على «مجده القديم» وذو الوجاهة الضاربة، المتفيهق بصِلاته وعلاقاته الاجتماعية لم يرحم جيل الشباب الطليعي المبدع آنذاك، يمدحه على استحياء في مجلسه ويخذله عن الظهور في أي وسيلة إعلامية. فلما استغل هذا الشاب المخذول - وهذا حقه - الساحة المتاحة وغرد حتى تفجرت طاقاته بزينها وشينها أمام ناظري كل قارئ رغما عنه امتعض صديقنا القديم وسب الوضع وردد مع المعري «ويا نفس جدي إن دهرك هازل» في وضع يثير الشفقة عليه كمن يبكي على اللبن المسكوب.

فالثقافة المحلية وإثارة الجدل في الأحداث الجارية، كالإعلانات التجارية، تضايقنا مهما تسترنا عنها إلا بستار مصمت عازل، وهذا دونه إرادة صلبة. وصديقنا في المجلس يزفر كل دقيقة بسخام النقد والمقت عن زمر الشبيبة الجديدة، ذاهلا وغير مقتنع أنه في زمن غير الزمن، وجيل غير الجيل، فإما أن يحتمل وإما أن يتوارى ويزهد ويكتفي بكتبه وإرشيفه القديم يروج له مريدوه ومحبوه وممالقوه أحيانا..

ويأسف هذا المتمارض على ربعه المهمشين وينعيهم، وهم شلة يحكون تجاربهم الاجتماعية الباهتة في الصحف الصفراء يزوقونها بأساليبهم الأدبية المتكلسة حتى أماتهم الزمن، وأطاحت بهم طبيعة التطور غير مصدقين أنه لا يصح إلا الصحيح. وتناسوا أن من سبقوهم من كبار أدباء المملكة لا تزال وسائل المعرفة الجديدة تعيد تدوير إنتاجهم لأنه صادق وجميل وباق ورصين كفلسفة حمزة شحاته وشعر محمد الثبيتي وإبداعات القصيبي.. وغيرهم..

وبتعريف الثقافة المعلوم بالضرورة «هي مجموع نتاج مجتمع في العلوم والفكر والفنون والآداب..» يختصره هؤلاء بثوب قزِع مفصل على تفيهقاتهم التي نقرأها مضطرين، فلا أثْرت عقلا ولا أغنت ذائقة، حتى اضطر القراء الجدد وبتوصيات إلى اللجوء إلى المجلات المصورة عن أصولها وكتابها من أعمدة الأدب والفكر العربي لينهلوا منها ويعبوا من معينها الباقي إلى أمد كمجلة الرسالة والثقافة والمنار والهلال والمقتطف والعربي.. إلخ.

هذا وأشكاله من عتاة الثقافة وطغاة الأنانية ضايقهم صيت الشباب الجدد الذي استحوذ على مسامعهم، فاضطروا إلى هجائهم بضعف موسوعيتهم ورداءة إتقانهم لشغلتهم، وصاروا لا يقعون إلا كالذباب على أخطاء دقيقة في النحو والصرف أو غلط نطق مفردة أو اسم من أسماء أعلام التراث، بينما يتغافل أن ما يجري عندنا هو ما جرى في الشرق والغرب بأن مفهوم الثقافة تبدل إلى مشهد الحياة برمتها والتخصص الرهيف، فكل آدمي يدب له بصمته وشكله المستقل فكيف بمن يتحمس للعمل ليثبت أهميته وهي الحاجة الضرورية لكل عاقل يفكر ويبدع..

أستاذنا القديم المغلوب على أمره..

أنت في زمن غير زمنك، ومفهوم الثقافة يتحور، وتلقّي القارئ بفئاته تعددت طرقة وأدواته، فإما أن تتغير وإلا فأنت مومياء، واجعل من أصدقائك قدوة من الذين تواضعوا وزاحموا الناس في الميدان سواء بسواء في سوق المعرفة، وإن خالطهم الرديء، وأنت أخذت حصتك بأنانية من السنين العجاف، واستحوذت على المشهد حتى تلقيناك في الصفحة الأولى والأخيرة، وبرنامج القناة الأولى ولا تتمنع عن الثانية، وما صدقنا أن الزمن المحايد يزيحك رغما عنك حتى أزعجتنا بضجيجك الضعيف، معتقدا أنك فريد زمانك..

أعيد وأكرر لا تخف: «ما يصح إلا الصحيح» (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).