«باحث أنثروبولوجي أسلم بلا وعي لما رأى روحَ المكان، وكأنه كان أداة بيد الزمان»، ربما تصلح هذه الجملة لشرحِ فكرة فيلم سينمائي، عن حياة الباحث الأنثروبولوجي، دونالد باول كول، أما لماذا وضعتُ هذه الجملة، فلأن إسلام دونالد كان بإيقاع مخفي، يُطل من بين سطور كتاباته، وهذا الإيقاع ارتبط بشخصيته القلقة من التاريخ الأوروبي، وبالزمان الاستثنائي الذي وجده عند قبيلة آل مرة، وبمعنى آخر إسلامه انحاز لإيقاع حياتي، تطابق زمنه مع مكانه، لكنه لم يُمسِك به.

يهم المقالة أن تقول إن الإسلام وجد طريقه إلى دونالد بعد أن انغمس -في مجتمع يُشبه أيام العرب منذ 1400 سنة- بين أفراد قبيلة آل مرة، وفارقه الإسلام حين انتقل إلى الحياة المدنية خارج القبيلة، وكأن الزمانَ التصق بمكان لا يُشبهه، وهذا ما جعل إيقاعه يتفاوت، فعند آل مرة وجد أن الصلاةَ والوقت كوجهي عملة، لهذا كان -معهم- مُصليًا كعابد نذر عمره للآخرة، ثم عاد بروتستانتيًا في تكساس، وتأخون -بالرأي- في مصر، وأسلم في الغرب كمهاجر علماني أممي، وهكذا بتعدد ينحاز إلى إيقاع زمني يُسيطر على المكان.

وهذا الإيقاع يعود إلى طفولة دونالد في الكنيسة البروتستانتية، فهو حين يعود بالذاكرة إلى الوراء يجد أن كثيرًا مما تعلمه وأحبه في معتقده الأول كان بمثابة المرحلة التحضيرية الأولى التي هيأته ليكون مسلمًا، أي ليكون جزءًا من الزمان المكاني، والإسلام -في جملة دونالد- بمعناه القديم، وهو الاستسلام لله، وفي الحديث القدسي: «أنا الدهر أقلّب ليله ونهاره»، وربما لم يكن الدهر هنا إلا الزمان المكاني.


ويستمر هذا الإيقاع يُسيّر دونالد حتى إنه استخدم -في سرده- الأثرَ الرجعي؛ ليجعل من إيقاعه الزمني الخاصّ مُطّردًا، وأعني أنه لما كانت تكساس تنقسم إلى فئة عليا إنجليز، وفئة دنيا مكسيكيين وإفريقيين، وصادف أنَّ أصدقاءَه من الفئة الدنيا وهو من العليا؛ تعمّد أن يُشير إلى تواضعه بالبقاء معهم، مع أنَّ ما جرى ليس بوعي منه، بل هي حياة أسرته ومحيطه.

وعلامة ذلك أنه أشار إلى أنَّ له أخًا من الرضاعةِ إفريقيًّا، هذا المشهد وصفه كالتالي: «وهي علاقة مهمة من المنظور الإسلامي، وكم أنا متشوِّق لمقابلةِ أخي فحليب أمه السوداء هو الذي غَذّاه وهو رجل أسود، وغذّاني وأنا رجلٌ أبيض»، ويركَّز على هذه المعيشة لمَّا عرفَ أنَّ الإسلام في مبدئه انتصر لبلالٍ الحبشي على أمية بن خلف القرشي، لهذا قد يأتي إيقاعُه محاولةً للخروجِ من نسقِ التاريخ الغربي، تجلى -لاحقًا- في مرحلتين؛ الأولى عند قبيلة آل مرّة، لمَّا حزن على رجلين لا يُصليان؛ وأحال السببَ إلى دراستهما في بلده أمريكا، أي كأنَّه يقول «خرجًا من زمانهما المكاني»، والثانية في مصر، لمَّا دافع بسرديةٍ مشوّشة عن الحركات الإسلامية ضد اليساريين المتأثّرين بالنسقِ الغربي.

ومحاولتُه الخروج من النسق الغربي، متعلقٌ باستغراقه في الزمانِ المكاني، فهو حين يُكثِر من الحديث عن كونه إنجليزيًا أبيضَ، يُحبّ السُودَ والمكسيكيين، فإنه يدلنا على صراعه مع تقاليد غربية متأصلة فيه، ويُصدِّرها إلى العالمِ كأكاديمي، لهذا لم يكن دونالد شخصًا جديدًا ومختلفًا إلا بين قبيلة آل مرة، فهم الذين أعادوه فعلًا لما قبل الحداثةِ التي يَنشُد تجربتها، وتحول بين يديهم إلى كائنٍ زمني حقيقيّ، ينطق الشهادتين دون أن يدري لماذا، ويصلي خلفَ شيخ القبيلة بلا إدراك للمعنى؛ إذ يروي دونالد أنَّ الشيخ طالب المري قال له «انطق الشهادتين»، فنطقها، هكذا دون مقدمات.

يقول دونالد: «كأنَّ شيئًا غامضًا غير مخطط له يحدث»، وهذا النطق جعله يُصلي معهم بلا وعي، إلا أنَّه لمَّا خرج من عندهم، لم يكن يؤدي الصلوات، وربما كان هذا الشيء الغامض مرتبطًا بتاريخ الإيقاع، أي الزمن حين يكون روحَ المكان، لهذا لم يكن في مصر إلا متأسلمًا يُدافع عن الحركات السياسية التي يظنُّها خارج النسق الغربي، بل إنه لما فكّر بهذا الزمن الغامض، لم يجد إجابة إلا على الطريقة الغربية، وذلك بأن ظنَّ أنَّ البروتستانتيّة نسخةٌ محدثة تجمع الإسلامَ والمسيحيّة، ثم كره هذا الاعتراف، وأظهره على طريقةِ الخائفين: «لا يظن ظانّ أنني أعني أنَّ البروتستانتية هي نفسها الإسلام»، ولا أدري لماذا افترض أنَّ القارئ سيظنّ هذا الظن؟ ربما لأنَّه هو الذي فكّر بهذا الافتراض وجعل البروتستانتية والوهابية -تحديدًا- روحًا واحدة، على أساس أنَّ مارتن لوثر كان يسعى لإرجاعِ المسيحيّة إلى ما يظنّه النقاء الأول.

وهذا ما سعى له ابنُ عبدالوهاب في الإسلام، وربما لم يأتِ هذا الظن إلا من معيشته الأولى في تكساس؛ حين لقي في المكتبة نصًا يتحدث عن رحلة محمد بن عبدالوهاب في القرن الثامن عشر، من نجد إلى مكة فالمدينة ثم البصرة بحثًا عن العلم الشرعي، وأنه في طريقِ عودته لقي أناسًا يُشركون مع الله أحدًا، فدعاهم إلى العودةِ إلى عبادةِ الله وحده، ثم أسَّسَ بعد ذلك حركةَ التوحيد، التي رسَخت في ذهنِ دونالد، ولامست وجدانه البروتستانتي، لكن ظلَّ سِر الإيقاع في حياته مجهولًا ما دام يُفكر كأكاديمي متأسلم.

ولم يستسلم للزمن المكاني كما هو، ومع أنه قال في كتابه «بدو البدو. حياة آل مرة في الربع الخالي»: «إنَّ أوقات الصلوات الخمس تنسجم مع الإيقاع الطبيعي للنهار»، إلا أنَّه لم يستطع أن يعقد حركته اللاواعية بهذا الإيقاع، بل ظهر في كتابه «الطريق إلى الإسلام»، كمتأسلم يستغفر من هذا القول، لأنَّه تذكّر أنَّ على الإنسان أن «يُكيّف نفسَه لتتوافق أعماله مع صلواته»، وهذه الجملة الأخيرة تظهر كجملة إسلامية، إلا أنَّها صناعة حداثية بعد خراب مالطا.