غسان كنفاني

.. أما غزة، فهي قصة مختلفة تمامًا. كانت المقاومة متحفزة للدفاع في الضفة الغربية والضفة الشرقية، إلا أنها تصاعدت فجأة في غزة على نحو استثنائي. كان للجبهة الشعبية أقوى نفوذ في غزة، لذلك تحركنا. دعني أذكر لك حالة محددة تلك التي تخص يوسف الخطيب أبو دهمان. كان يوسف رئيسًا للعمليات العسكرية للجبهة الشعبية في غزة وقتل في بداية ديسمبر. اجتاحت الإضرابات والمظاهرات الجماهيرية شوارع غزة لستة أيام متوالية؛ لذا علم الجميع أن الرجال لا يزالون يقاتلون. وقد أدى ذلك إلى تصعيد مستوى العمليات في غزة، على الرغم من أن ذلك كبَّدَنَا خسائر فاقت كل ما تكبدناه فيما مضى.

يبلغ عدد سكان غزة 360000 نسمة؛ معظمهم لاجئون فلسطينيون، في غزة ألف الناس الأسلحة، كان يتم تدريبهم من قبل جيش التحرير الفلسطيني في ظل الإدارة المصرية على عكس الضفة الغربية. هناك عامل آخر وهو قمع المصريين للحركة القومية العربية داخل غزة، ولكن ليس إلى الحد الذي كان عليه الأمر في الضفة الغربية. عندما احتلت غزة، كان للحركة القومية العربية خلايا هناك؛ لذا كان لدينا الحد الأدنى الذي يمكننا البدء منه في غزة. هناك أيضًا عامل نفسي: يحيط البحر غزة غربًا، وتحدها سيناء جنوبًا، والنقب شرقًا، ودولة إسرائيل من الشمال. يرزح الفلسطينيون هناك تحت حصار نفسي، مجبرين على تحمل الصعاب. كانت الاتصالات في الضفة الغربية تتم على نحو أيسر في الشهور الأولى من الاحتلال؛ فكان من السهل إرسال النقود والرجال والأسلحة إلى المنطقة. اعتاد سكان الضفة الغربية طرقًا أكثر سهولة، ولم يكن باستطاعتهم مقاومة الإجراءات الإسرائيلية المضادة. أما في غزة فكان السكان أكثر صلابة ومهنية. ليس صحيحًا أن معظمهم كان ضد المقاومة، لكن الأكيد أنهم لم يكونوا في عجالة من أمرهم؛ أما في قطاع غزة فقد عاش الناس تحت ضغوط أكبر.

أود الآن أن أدلي ببعض التعليقات العامة. في كل ثورة هناك نوبة أولية من الحماس لا تلبث أن تخفت بعد مرور وقت، وذلك لأنه لم يتم تجذيرها بعمق. أعتقد أن موجتنا الأولى بلغت ذروتها في معركة الكرامة، في مارس عام 1968؛ وبعد ذلك بدأ الهبوط، ذلك أننا كنا نتقلص لنقترب من أبعادنا الحقيقية. وفي مثل هذه الفترات من الانتكاس دائمًا ما تكون هناك انقسامات ومبالغات رومانسية وميول نحو الفردية ونحو تحويل الثورة إلى أسطورة، وما إلى ذلك. تلك هي أمراض العالم المتخلف، وهي تعبر عن نفسها في وقت لا يكون فيه الشخص منغمسًا في عمل ثوري حقيقي، وعلى الرغم من ذلك يُنظر إليه باعتبار أنه يصنع ثورة. وإذا لم تجد الثورة مخرجًا من تلك الشرنقة، وإذا لم تفعل شيئًا مثل المسيرة الطويلة لماو تسي تونج، أو تكتسب المزيد من القوة من الخارج عن طريق تحرير إحدى الدول العربية، فسوف تكون للهزائم آثار فادحة على معنويات الجماهير. لم تبدأ مرحلة التدهور في سبتمبر، إنما بدأت بعد معركة الكرامة.

ليس هناك شيء حقًا كدولة إسرائيل؟ ترى مجموعة ما داخل إسرائيل، لم يكن هناك شعب يهودي، لكن المهاجرين اليهود الذين جاؤوا إلى فلسطين أسسوا مجتمعًا جديدًا يمكن أن يطلق عليه دولة إسرائيل.

يعني أن أي مجموعة من المستعمرين تحتل منطقة ما وتقبع فيها لفترة من الزمن يمكنها تبرير وجودها ذلك بالقول إنها تتطور لتصير شعبًا ودولة.

هذا موقف استعماري؛ الذي لديك هو مجموعة من الناس، جاؤوا لأسباب مختلفة، مبررة وغير مبررة، إلى منطقة بعينها من العالم. هم جميعًا يتشاركون في فرض وضع استعماري.

1971*

* كاتب وروائي فلسطيني «1936 - 1972»