الانفراد في العبادة له جماله وعمقه، فهو لحظة نقاء بين العبد وربه، يتفرغ فيها للتأمل والتضرع بعيدًا عن صخب الحياة؛ وفي وقت السحر، حين ينام الجميع، يقف المتعبد في محرابه، يقرأ ويتدبر، ويناجي ويبكي؛ وهذه الخلوة من شأنها أن تتيح له التفرغ لحساب النفس، واستشعار معاني التوبة والتجرد من مشاغل الدنيا؛ وقد جسد لنا الرسول المصطفى، صلوات ربي وسلامه عليه، هذا المعنى في اعتكافه أواخر رمضان، حيث انعزل عن الناس، وتفرغ لذكر الله وقيام الليل؛ ومع أن الخلوة محطة لشحن الروح، والعودة إلى الله بقلب أكثر صفاءً، فإن العبادة الفردية قد تكون عرضة للفتور، وهنا يحتاج الإنسان إلى محفزات تحثه على المداومة، وتذكره بعدم التراخي، ومنها العبادات الجماعية..
الجماعة مصدر طاقة إيمانية عظيمة، فمن يجلس في مسجدٍ يعجّ بالمتعبدين، أو يشارك في صلاة التراويح بين صفوف الراكعين والساجدين، يجد في ذلك تحفيزًا لنفسه، واستشعارًا لمعنى الأمة المتآزرة في طاعة الله، وهنا أيضًا نجد أن النبي المجتبى، عليه الصلاة والسلام، لم يكتفِ بالعبادة الفردية، بل كان يؤمّ الصحابة في القيام، ويحثّهم على الاجتماع للذكر، وقال لهم ولنا: «ما اجتمَعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللَّهِ يتلونَ كتابَ اللَّهِ، ويتدارسونَهُ فيما بينَهم إلَّا نزلَت عليهِم السَّكينةُ، وغشِيَتهُمُ الرَّحمةُ، وحفَّتهُمُ الملائكَةُ، وذكرَهُمُ اللَّهُ فيمَن عندَهُ»؛ فالجماعة في العبادة تعزز الشعور بالانتماء، وتُذكّر الفرد بأنه ليس وحده في طريقه إلى الله، بل هو ضمن قافلة تسير في ذات الاتجاه، تتساند وتتعاون في الخير، وهي كذلك عامل استمرارية، حيث يجد الإنسان نفسه مدفوعًا للمشاركة، في تجاوز لحظات الكسل والفتور.
بالعودة إلى سؤال أول المقال؛ أيهما أولى؟ الحقيقة أن كليهما مطلوب، والذكي هو من يعرف كيف يوازن بينهما؛ فمن يغرق في العبادة الجماعية وحدها قد يجد نفسه منشغلًا بالتفاعل مع الآخرين أكثر من التركيز على جوهر العبادة، ومن يختار العزلة المطلقة قد يفقد الحافز الذي يمده بالحياة الإيمانية المتجددة، والتوازن هو المعادلة المثلى، خاصة لمن ذاق طعم لحظات الخلوة، من محاسبة للنفس، وتعميق للإخلاص، واستشعر قيمة الجماعة في دفعه للاستمرارية وتحفيزه للمزيد من الاستمتاع بتجارب إيمانية مختلفة..
أختم بأن شهر رمضان الكريم مدرسة مثلى للتوازن، يعلمنا كيف ننتقل بين الوحدة والجماعة، وبين السكون والحركة، وبين السرّ والعلن، ويزيدنا من اليقين التام بأن العبادة ليست مجرد طقوس، بل تجربة متكاملة، تتطلب سكونًا وتأملًا، كما أنها تحتاج إلى دعمٍ جماعي يحيي الهمة؛ والسعيد منا من استطاع أن يجمع بين الحالتين، ليخرج من رمضان وبعده بقلبٍ عامرٍ بالإيمان، يعبد الله في خلوته، ولا ينسى أن يسير مع القافلة الناجية إلى ربه وخالقه.