انتمي إلى عائلة قروية أصلها من شفا عمرو قرب حيفا. والدي شكري كان معلم مدرسة في شفا عمرو، ويبدو أنه كان يعمل في مدرسة إرسالية، وكان معلم المدرسة في ذلك الوقت شخصا محترما. يذكر اسمه في بقايا الأغاني في القرية «يا شكري هات الدفتر»، وكانت عائلتي واحدة من العائلات القليلة التي لم تكن تملك أرضا، وهذا أمر نادر الظهور في ذلك الوقت لدى عرب فلسطين، ويبدو أن جدي لوالدي كان مسرفا متلافا، وأن الإنجليز حين دخلوا بلادنا جلبوا معهم جنودا كانوا يسمون «مغاربة» أتوا مع عائلاتهم، وصادروا أراضي أحلوا بها هؤلاء الجنود مع عائلاتهم، وحدث أن كل ما تبقى لنا من أرض كان في وسط المنطقة التي صودرت.
وفي عام 1920، هاجر والدي إلى حيفا مع أولاده، حيث ألقوا في سوق العمل كعمال. وفي عام 1921، ولدت لعائلة من الممكن اعتبارها قسرا عائلة عاملة، وفتح والدي دكانا بعض الوقت، وكنا نسرقها فأغلقها، واعتمدنا في معيشتنا على عمل إخوتي، بعضهم عمل في سكة الحديد، واثنان في بناء كاسر الأمواج في ميناء حيفا، ثم في مصانع تكرير البترول في حيفا. نحن تسعة أولاد (سبعة صبيان وبنتان). هذا الوضع الاقتصادي هو وضع خاص بالنسبة لأية عائلة فلسطينية، وكنت ألاحظ في علاقاتي بأقراني أنه حتى القروي الذي أتى إلى المدينة بقيت له أرض في القرية أو استملك في المدينة. أما نحن فكان وضعنا مختلفا. لكن من ناحية أخرى، كان العمل اليدوي يضعنا في مستوى دخل معقول، أي في مستوى طبقة عاملة متوسطة. كما أن عائلتي كانت تنظر دائما إلى فوق، أي تحاول أن تتبرجز.
تكامل شعوري الوطني في أثناء ثورة 1936 التي كانت أكثر الثورات الفلسطينية وضوحا في توجهها ضد الاستعمار البريطاني، وكان صدامها مباشرا معه. لذلك، أستطيع أن أقول إن قضية التوجه الإيجابي نحو اليهود في فلسطين كانت بالنسبة لي قضية طبيعية، ولا أعتقد أن جيلي في حيفا تأثر بشكل جدي أو عميق بآراء عنصرية معادية لليهود.
وفي هذا الزمن المبكر، أي عام 1936، كانت نظرتنا المعادية للصهيونية نابعة، ويحق، من كونها أجيرا للاستعمار البريطاني، ومنفذا لمخططاته. كما أن موقفنا تأثر بمجموعة من الأحداث: عملیات طرد الفلاحين من أراضيهم، خاصة قضية وادي الحورات الذي باعها الملاك العرب للصهاينة، وطرد الجيش البريطاني الفلاحين العرب منه. وحركة القسام، حيث كنا في المدرسة الابتدائية نقيم تنظيمات سرية، لمحاربة الإنجليز، وكان ذلك نتيجة تشجيع بعض أساتذتنا الذين علينا الآن أن نشيد بموقف العديد منهم، ولكنها كانت حركات صبيانية دون أي فعل سوى أننا كنا نشارك في الإضرابات والتظاهرات. وتأثرنا في مدرستنا، مدرسة المعارف الابتدائية في حيفا، بإعدام حجازي وشمشوم والزير في صفد، خاصة أن أخ الشهيد حجازي كان معلمنا للغة العربية، الأستاذ عارف حجازي، وكنا نحبه ونحترمه.
أنجزت الصف الثانوي الأول في حيفا، ثم ذهبت إلى عكا، حيث درست الصف الثانوي الثاني في المدرسة الحكومية هناك، بعدها لم يعد هناك إمكان للتعلم الثانوي المجاني، فذهبت إلى مدرسة إرسالية إسكتلندية في حيفا (مدرسة مار لوقا)، وكان أحد معلميها البارزين هو ألياس حداد، وفيها أنهيت دراستي الثانوية.
تنقلت بين عدد كبير من الأعمال، وعلى رأسها المحاولة التي جرت بتوجيه من أخي الكبير، كي أصبح مهندسا ميكانيكيا، فعملت في بناء مصافي البترول، ثم انتقلت إلى الإذاعة في القدس، وقدمت استقالتي من الإذاعة في 1943، كي أتفرغ للعمل الحزبي، ثم شاركت في تأسيس عصبة التحرر الوطني في 1943. وفي أيار 1944، أصدرنا جريدة «الاتحاد»، ومنذ ذلك الوقت أصبحت حياتي السياسية والأدبية مرتبطة بـ«الاتحاد» ومجلة «الغد»، ومختلف الأدبيات التي كانت تصدر عن عصبة التحرر الوطني أو بتأثير منها.
وفي عام 1946، شاركت مع عدد من المثقفين العرب البارزين بذلك الوقت في إصدار مجلة أسبوعية اسمها «المهماز»، التي لاقت انتشارا واسعا في فلسطين والأردن والعراق، وحاولنا أن نجاري بها المجلات الأسبوعية المصرية «آخر ساعة» و«روز اليوسف»، ولكن مجلتنا لم تعش سوى عام واحد. وقد جابهت مجلتنا مقاومة مباشرة من الحكم الملكي الذي كان قائما في شرقي الأردن، خصوصا بعد أن نشرنا كاريكاتيرا على عرض الغلاف يصور تاجا ضخما كما لو أنه دبابة، وتحته جماهير مدعوسة، وكنت في أواخر الانتداب البريطاني الذي أقيم في رام الله. وعندما اضطررت إلى تركها في حرب 1948، حفرنا حفرة في مساحة أمام بيت جدة زوجتي، وطمرنا صندوقا وضعنا فيه هذه الأعداد وكتبا وأوراقا أخرى، فلما احتلت إسرائيل الضفة الغربية في عدوان حزيران 1967، ذهبت إلى ذلك المكان، فوجدت أنه شيد فوقه بيت كبير، ولم يعد العثور على الصندوق ممكنا.
في 1948، كان من الممكن أن أقتل كما قتل الكثيرون، وإذا لم أقتل فهذا صدفة، وقد كنت في العديد من المرات أعيش أوضاعا كان من الممكن أن أموت فيها برصاصة.
لذلك ربما يولد في حس تلخيص التجربة وحرقة، لأن هذا الأمر لا يجري على مستوى القيادات الفلسطينية. لقد آن أوان تلخيص التجربة، فتجربتنا غنية جدا في مآسيها ونكساتها. والسؤال الذي يشغلني الآن هو أن هذا الشعب الذي قدم كل هذه التضحيات لماذا لم يحقق حتى الآن الحد الأدنى من أمانيه؟!، والحجج التي تقدم غير مقنعة: العدو أقوى أو التطويق الرجعي.. إذا لماذا لا نلخص التجربة دون الاستهانة بهذه الأسباب. وإذا لم أقتل فهذا صدفة، وقد كنت في العديد من المرات أعيش أوضاعا كان من الممكن أن أموت فيها برصاصة.
1980*
* روائي وصحفي فلسطيني «1921 - 1996»
وفي عام 1920، هاجر والدي إلى حيفا مع أولاده، حيث ألقوا في سوق العمل كعمال. وفي عام 1921، ولدت لعائلة من الممكن اعتبارها قسرا عائلة عاملة، وفتح والدي دكانا بعض الوقت، وكنا نسرقها فأغلقها، واعتمدنا في معيشتنا على عمل إخوتي، بعضهم عمل في سكة الحديد، واثنان في بناء كاسر الأمواج في ميناء حيفا، ثم في مصانع تكرير البترول في حيفا. نحن تسعة أولاد (سبعة صبيان وبنتان). هذا الوضع الاقتصادي هو وضع خاص بالنسبة لأية عائلة فلسطينية، وكنت ألاحظ في علاقاتي بأقراني أنه حتى القروي الذي أتى إلى المدينة بقيت له أرض في القرية أو استملك في المدينة. أما نحن فكان وضعنا مختلفا. لكن من ناحية أخرى، كان العمل اليدوي يضعنا في مستوى دخل معقول، أي في مستوى طبقة عاملة متوسطة. كما أن عائلتي كانت تنظر دائما إلى فوق، أي تحاول أن تتبرجز.
تكامل شعوري الوطني في أثناء ثورة 1936 التي كانت أكثر الثورات الفلسطينية وضوحا في توجهها ضد الاستعمار البريطاني، وكان صدامها مباشرا معه. لذلك، أستطيع أن أقول إن قضية التوجه الإيجابي نحو اليهود في فلسطين كانت بالنسبة لي قضية طبيعية، ولا أعتقد أن جيلي في حيفا تأثر بشكل جدي أو عميق بآراء عنصرية معادية لليهود.
وفي هذا الزمن المبكر، أي عام 1936، كانت نظرتنا المعادية للصهيونية نابعة، ويحق، من كونها أجيرا للاستعمار البريطاني، ومنفذا لمخططاته. كما أن موقفنا تأثر بمجموعة من الأحداث: عملیات طرد الفلاحين من أراضيهم، خاصة قضية وادي الحورات الذي باعها الملاك العرب للصهاينة، وطرد الجيش البريطاني الفلاحين العرب منه. وحركة القسام، حيث كنا في المدرسة الابتدائية نقيم تنظيمات سرية، لمحاربة الإنجليز، وكان ذلك نتيجة تشجيع بعض أساتذتنا الذين علينا الآن أن نشيد بموقف العديد منهم، ولكنها كانت حركات صبيانية دون أي فعل سوى أننا كنا نشارك في الإضرابات والتظاهرات. وتأثرنا في مدرستنا، مدرسة المعارف الابتدائية في حيفا، بإعدام حجازي وشمشوم والزير في صفد، خاصة أن أخ الشهيد حجازي كان معلمنا للغة العربية، الأستاذ عارف حجازي، وكنا نحبه ونحترمه.
أنجزت الصف الثانوي الأول في حيفا، ثم ذهبت إلى عكا، حيث درست الصف الثانوي الثاني في المدرسة الحكومية هناك، بعدها لم يعد هناك إمكان للتعلم الثانوي المجاني، فذهبت إلى مدرسة إرسالية إسكتلندية في حيفا (مدرسة مار لوقا)، وكان أحد معلميها البارزين هو ألياس حداد، وفيها أنهيت دراستي الثانوية.
تنقلت بين عدد كبير من الأعمال، وعلى رأسها المحاولة التي جرت بتوجيه من أخي الكبير، كي أصبح مهندسا ميكانيكيا، فعملت في بناء مصافي البترول، ثم انتقلت إلى الإذاعة في القدس، وقدمت استقالتي من الإذاعة في 1943، كي أتفرغ للعمل الحزبي، ثم شاركت في تأسيس عصبة التحرر الوطني في 1943. وفي أيار 1944، أصدرنا جريدة «الاتحاد»، ومنذ ذلك الوقت أصبحت حياتي السياسية والأدبية مرتبطة بـ«الاتحاد» ومجلة «الغد»، ومختلف الأدبيات التي كانت تصدر عن عصبة التحرر الوطني أو بتأثير منها.
وفي عام 1946، شاركت مع عدد من المثقفين العرب البارزين بذلك الوقت في إصدار مجلة أسبوعية اسمها «المهماز»، التي لاقت انتشارا واسعا في فلسطين والأردن والعراق، وحاولنا أن نجاري بها المجلات الأسبوعية المصرية «آخر ساعة» و«روز اليوسف»، ولكن مجلتنا لم تعش سوى عام واحد. وقد جابهت مجلتنا مقاومة مباشرة من الحكم الملكي الذي كان قائما في شرقي الأردن، خصوصا بعد أن نشرنا كاريكاتيرا على عرض الغلاف يصور تاجا ضخما كما لو أنه دبابة، وتحته جماهير مدعوسة، وكنت في أواخر الانتداب البريطاني الذي أقيم في رام الله. وعندما اضطررت إلى تركها في حرب 1948، حفرنا حفرة في مساحة أمام بيت جدة زوجتي، وطمرنا صندوقا وضعنا فيه هذه الأعداد وكتبا وأوراقا أخرى، فلما احتلت إسرائيل الضفة الغربية في عدوان حزيران 1967، ذهبت إلى ذلك المكان، فوجدت أنه شيد فوقه بيت كبير، ولم يعد العثور على الصندوق ممكنا.
في 1948، كان من الممكن أن أقتل كما قتل الكثيرون، وإذا لم أقتل فهذا صدفة، وقد كنت في العديد من المرات أعيش أوضاعا كان من الممكن أن أموت فيها برصاصة.
لذلك ربما يولد في حس تلخيص التجربة وحرقة، لأن هذا الأمر لا يجري على مستوى القيادات الفلسطينية. لقد آن أوان تلخيص التجربة، فتجربتنا غنية جدا في مآسيها ونكساتها. والسؤال الذي يشغلني الآن هو أن هذا الشعب الذي قدم كل هذه التضحيات لماذا لم يحقق حتى الآن الحد الأدنى من أمانيه؟!، والحجج التي تقدم غير مقنعة: العدو أقوى أو التطويق الرجعي.. إذا لماذا لا نلخص التجربة دون الاستهانة بهذه الأسباب. وإذا لم أقتل فهذا صدفة، وقد كنت في العديد من المرات أعيش أوضاعا كان من الممكن أن أموت فيها برصاصة.
1980*
* روائي وصحفي فلسطيني «1921 - 1996»