يمضي العالم إلى سنة كورونية ثالثة، لتكون على الأغلب سنة التعود على الفيروس والتعايش مع متحوراته، إصابات ووفيات وتراجعات اقتصادية وصحية وتعليمية. لم يعد «كوفيد 19» مجرد وباء يتعلق بما يشبه القضاء والقدر الطبيعيين، أو معضلة يتولى العلماء والمختبرات إيجاد علاج لها، بل إن العام الثاني المنصرم برهن أن الوباء أدرج في القضايا السياسية والإستراتيجية، تحديداً في سياق الصراع الدولي بين الأقطاب الثلاثة، الولايات المتحدة والصين وروسيا. كان الوباء يستحق أو يحتم، أقله بشرياً وإنسانياً، أن يحيد عن منافسات النفوذ والاستقطاب لتتضافر الجهود في مكافحته. على العكس، فإن ما شهده العالم كان تبارياً غربياً - شرقياً بين اللقاحات وشركاتها ودولها، ولم يعرف بيقين تام مدى فاعليتها إذ لا تعترف ببعضها بعضاً، ولا تزال الأبحاث تفتقد معلومات عن الفيروس ولا تتعاون الصين في توفيرها، ربما بهاجس تجاري - سياسي.
وكما أن أي وباء لا يمكن أن يعالج وباءً آخر، كذلك فإن نمط العقلية السياسية السائدة عالمياً بات بؤرة الوباء الأعظم. الدول الكبرى تتصارع لكنها تتخادم، ولذلك فهي لم تستطع أن تتوافق في ذروة تفشي الفيروس وحصده الأرواح يومياً على وقف النزاعات المسلحة أو تجميدها، ولو مؤقتاً. وطوال عقود لم تفعل كثيراً تلبية للأجندة الأممية التي شاركت بل أشرفت على وضعها لـ«مكافحة» الفقر والجوع والتشرد التي تتحكم بمصير غالبية سكان العالم، بحسب تقارير المنظمات الأمم المتحدة والبنك الدولي الذي يقدم مخصصات متواضعة للتعامل معها. بل تعتبر الدول الكبرى هذه الآفات المتلازمة من طبيعة الحياة البشرية ولا يمكن التعامل معها إلا بالمقدار الذي يبقيها على حالها، حتى لو وسعت رقعة البؤس وأدت إلى موجات هجرة ولجوء أو إلى بروز ظواهر التطرف والإرهاب.
الكل أمل في ذروة الوباء في 2020 - 2021 بأن يراجع أقوياء العالم سياساتهم، لكن جل ما أرقهم كانت الخسائر الاقتصادية لأن عجلة الحياة توقفت وكان على الخيول البشرية التي تركض من أجلهم أن تنعزل لتتقي وتقيهم أذى الفيروس. قالوا حينها إن العالم لن يعود كما كان قبل الجائحة، ووعدوا بأن يصلحوا ما أفسدته أطماعهم وأن يوقفوا اعتداءاتهم على الطبيعة. ثمة علاقة بين الأوبئة وتقلبات الطبيعة. لكنهم فشلوا في امتحان مؤتمر المناخ في غلاسكو حيث جددوا الوعود والتعهدات التي لم يوفوا بها أبداً. وكان ذلك من أسوأ الأدلة إلى أن الخسارة الكبرى لم تكن اقتصادية فقط، ولا في الاستخفاف بالتغير المناخي كأحد أهم المخاطر الوجودية فحسب، بل في أن العالم لم يتعلم أو لم يرد أن يتعلم من دروس الوباء ومحنته، بدليل أن العام المنصرم أسدل ستاره على نذر حروب كأنها موعودة، وعلى مآس ونزاعات باتت مزمنة وهناك حرص على إدامتها.
ثمة عناوين لهذه النذر في إطار الصراع بين الأقطاب الدولية الثلاثة، منها مثلاً تايوان وأوكرانيا، على وقع الصعودين الصيني والروسي. إذ وضعت الصين استعادة «جزئها» المستقل على جدول أعمالها، بعدما أنجزت «تطبيع» هونج كونج في خريطتها من دون أن تضطر لسيناريوات حربية، لكن الأمر يختلف مع الجزيرة التي تبدي الولايات المتحدة تبنياً وحماية لها، وهو ما لم يعد من «ضمانات» النظام العالمي. أما روسيا فيكاد رئيسها فلاديمير بوتين يخرق «حرمة الحروب» في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ليبقي أوكرانيا في الفلك الروسي حتى لو تطلب الأمر غزواً، ومع أنه افتعل وضعاً يقود عملياً إلى تقسيم هذه الدولة إلا أنه يريدها كاملة وموحدة تحت سيطرته كما كانت في الحقبة السوفياتية، ولعل انقسام الشعب هو ما أعاده إلى منطق الحرب. لم يسبق للصراعين الأمريكي- الصيني والأمريكي - الروسي أن اختبرا عسكرياً بل بقيا في إطار الحرب الباردة أو الحروب بالوكالة، لكن التصميم على إزاحة أمريكا عن زعامة العالم يفتح كل الاحتمالات.
احتدم هذا التنافس في 2021 وزاده حدة صعود إيران كقوة إقليمية تلعب بين الأقطاب الثلاثة، بل تلعب على إعادة رسم خريطة المنطقة العربية ومنطقة وسط آسيا، وفقاً للخطط الأمريكية - الإسرائيلية لتغدو «الشريك» الذي يستحق الاعتراف بنفوذه ودوره. كانت لديها فرصة لتحقيق بعض من طموحها، خلال التفاوض على الاتفاق النووي وبعد التوصل إليه عام 2015، لكنها أدركت قصور قدراتها فحضت روسيا على التدخل في سورية، وعندما أضعفتها «العقوبات القصوى» الأمريكية لجأت إلى «اتفاق إستراتيجي» مع الصين وتحاول إنجاز اتفاق مماثل مع روسيا، لكن هذين الاتفاقين مع بكين وموسكو لا يمنعان أن إيران نفسها باتت موضع صراع بين الأقطاب الثلاثة، كل لأسبابه. لذلك فهي بلغت في مفاوضات فيينا منعطفاً يتطلب منها أولاً أن تجنب أرضها حرباً مباشرة ولو محدودة، وأن تدرك ثانياً أن إقحام ميليشياتها في مواجهة شاملة قد لا يحقق لها النتائج التي تتوخاها، والأهم ثالثاً أن تنتهز التفاوض المباشر مع أمريكا لتحقيق مصالحها الإقليمية لقاء تنازلات، وهذا يكفي لانكشاف نظامها كآلة عسكرية مجرداً من قناعه العقائدي الخادع، فلا يعود هناك فارق بينها وبين إسرائيل.
قد تكون إيران مستعدة لهذه التنازلات تحت ستار أن من يحكمونها حالياً متشددون، وقد تسعى إلى ضمان مصالحها قبل الإقدام عليها، لكن أمريكا لن تمنحها أي امتياز على حساب إسرائيل. قد تكون الـ2022 سنة تفجير الصراع بين إيران وإسرائيل، وسنة حسم توجهاتهما، لكنها لن تحسم النزاعات التي يجري البحث عبثاً عن حلول سياسية لها، بل تكاد هذه الحلول أن تصبح مستحيلة بدءاً من سورية (روسيا تنقلب على القرار 2254، بحسب مبعوثها لافرنتييف) إلى اليمن وغزة (ربطاً بالمشروع الإيراني) وفلسطين (ربطاً بالتواطؤ الأمريكي الدائم مع إسرائيل). وفي الوقت نفسه تتوسع خريطة عدم الاستقرار أو انعدامه لتشمل عربياً لبنان والعراق وليبيا والسودان وتونس، ولتتوج بسباق تسلح وقطيعة افتعلتها الجزائر مع المغرب. أزمات يعاد تدويرها سنةً بعد سنة، بما تحمله من إفقار وتجويع وتشريد تضاف إليها بثبات جائحة كورونا الباقية والمتمددة.
وكما أن أي وباء لا يمكن أن يعالج وباءً آخر، كذلك فإن نمط العقلية السياسية السائدة عالمياً بات بؤرة الوباء الأعظم. الدول الكبرى تتصارع لكنها تتخادم، ولذلك فهي لم تستطع أن تتوافق في ذروة تفشي الفيروس وحصده الأرواح يومياً على وقف النزاعات المسلحة أو تجميدها، ولو مؤقتاً. وطوال عقود لم تفعل كثيراً تلبية للأجندة الأممية التي شاركت بل أشرفت على وضعها لـ«مكافحة» الفقر والجوع والتشرد التي تتحكم بمصير غالبية سكان العالم، بحسب تقارير المنظمات الأمم المتحدة والبنك الدولي الذي يقدم مخصصات متواضعة للتعامل معها. بل تعتبر الدول الكبرى هذه الآفات المتلازمة من طبيعة الحياة البشرية ولا يمكن التعامل معها إلا بالمقدار الذي يبقيها على حالها، حتى لو وسعت رقعة البؤس وأدت إلى موجات هجرة ولجوء أو إلى بروز ظواهر التطرف والإرهاب.
الكل أمل في ذروة الوباء في 2020 - 2021 بأن يراجع أقوياء العالم سياساتهم، لكن جل ما أرقهم كانت الخسائر الاقتصادية لأن عجلة الحياة توقفت وكان على الخيول البشرية التي تركض من أجلهم أن تنعزل لتتقي وتقيهم أذى الفيروس. قالوا حينها إن العالم لن يعود كما كان قبل الجائحة، ووعدوا بأن يصلحوا ما أفسدته أطماعهم وأن يوقفوا اعتداءاتهم على الطبيعة. ثمة علاقة بين الأوبئة وتقلبات الطبيعة. لكنهم فشلوا في امتحان مؤتمر المناخ في غلاسكو حيث جددوا الوعود والتعهدات التي لم يوفوا بها أبداً. وكان ذلك من أسوأ الأدلة إلى أن الخسارة الكبرى لم تكن اقتصادية فقط، ولا في الاستخفاف بالتغير المناخي كأحد أهم المخاطر الوجودية فحسب، بل في أن العالم لم يتعلم أو لم يرد أن يتعلم من دروس الوباء ومحنته، بدليل أن العام المنصرم أسدل ستاره على نذر حروب كأنها موعودة، وعلى مآس ونزاعات باتت مزمنة وهناك حرص على إدامتها.
ثمة عناوين لهذه النذر في إطار الصراع بين الأقطاب الدولية الثلاثة، منها مثلاً تايوان وأوكرانيا، على وقع الصعودين الصيني والروسي. إذ وضعت الصين استعادة «جزئها» المستقل على جدول أعمالها، بعدما أنجزت «تطبيع» هونج كونج في خريطتها من دون أن تضطر لسيناريوات حربية، لكن الأمر يختلف مع الجزيرة التي تبدي الولايات المتحدة تبنياً وحماية لها، وهو ما لم يعد من «ضمانات» النظام العالمي. أما روسيا فيكاد رئيسها فلاديمير بوتين يخرق «حرمة الحروب» في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ليبقي أوكرانيا في الفلك الروسي حتى لو تطلب الأمر غزواً، ومع أنه افتعل وضعاً يقود عملياً إلى تقسيم هذه الدولة إلا أنه يريدها كاملة وموحدة تحت سيطرته كما كانت في الحقبة السوفياتية، ولعل انقسام الشعب هو ما أعاده إلى منطق الحرب. لم يسبق للصراعين الأمريكي- الصيني والأمريكي - الروسي أن اختبرا عسكرياً بل بقيا في إطار الحرب الباردة أو الحروب بالوكالة، لكن التصميم على إزاحة أمريكا عن زعامة العالم يفتح كل الاحتمالات.
احتدم هذا التنافس في 2021 وزاده حدة صعود إيران كقوة إقليمية تلعب بين الأقطاب الثلاثة، بل تلعب على إعادة رسم خريطة المنطقة العربية ومنطقة وسط آسيا، وفقاً للخطط الأمريكية - الإسرائيلية لتغدو «الشريك» الذي يستحق الاعتراف بنفوذه ودوره. كانت لديها فرصة لتحقيق بعض من طموحها، خلال التفاوض على الاتفاق النووي وبعد التوصل إليه عام 2015، لكنها أدركت قصور قدراتها فحضت روسيا على التدخل في سورية، وعندما أضعفتها «العقوبات القصوى» الأمريكية لجأت إلى «اتفاق إستراتيجي» مع الصين وتحاول إنجاز اتفاق مماثل مع روسيا، لكن هذين الاتفاقين مع بكين وموسكو لا يمنعان أن إيران نفسها باتت موضع صراع بين الأقطاب الثلاثة، كل لأسبابه. لذلك فهي بلغت في مفاوضات فيينا منعطفاً يتطلب منها أولاً أن تجنب أرضها حرباً مباشرة ولو محدودة، وأن تدرك ثانياً أن إقحام ميليشياتها في مواجهة شاملة قد لا يحقق لها النتائج التي تتوخاها، والأهم ثالثاً أن تنتهز التفاوض المباشر مع أمريكا لتحقيق مصالحها الإقليمية لقاء تنازلات، وهذا يكفي لانكشاف نظامها كآلة عسكرية مجرداً من قناعه العقائدي الخادع، فلا يعود هناك فارق بينها وبين إسرائيل.
قد تكون إيران مستعدة لهذه التنازلات تحت ستار أن من يحكمونها حالياً متشددون، وقد تسعى إلى ضمان مصالحها قبل الإقدام عليها، لكن أمريكا لن تمنحها أي امتياز على حساب إسرائيل. قد تكون الـ2022 سنة تفجير الصراع بين إيران وإسرائيل، وسنة حسم توجهاتهما، لكنها لن تحسم النزاعات التي يجري البحث عبثاً عن حلول سياسية لها، بل تكاد هذه الحلول أن تصبح مستحيلة بدءاً من سورية (روسيا تنقلب على القرار 2254، بحسب مبعوثها لافرنتييف) إلى اليمن وغزة (ربطاً بالمشروع الإيراني) وفلسطين (ربطاً بالتواطؤ الأمريكي الدائم مع إسرائيل). وفي الوقت نفسه تتوسع خريطة عدم الاستقرار أو انعدامه لتشمل عربياً لبنان والعراق وليبيا والسودان وتونس، ولتتوج بسباق تسلح وقطيعة افتعلتها الجزائر مع المغرب. أزمات يعاد تدويرها سنةً بعد سنة، بما تحمله من إفقار وتجويع وتشريد تضاف إليها بثبات جائحة كورونا الباقية والمتمددة.