عبدالوهاب بدرخان

تمر المنطقة العربية بمرحلة تحولات قد تطول أو تقصر، وقد تنجح أو تفشل، بحسب النجاحات والتوازنات التي يمكن التوصل إليها في حوارات التقارب بين العرب ودول الجوار الإقليمي، تركيا وإيران واسرائيل. كان ذلك خياراً مطروحاً منذ نهاية العقد الماضي، وقبيل اندلاع الانتفاضات الشعبية العربية، ولم يتأمن توافق عليه بين الدول العربية الأساسية، مصر والسعودية وسورية (آنذاك)، بسبب تباين المقاربات من كل من هذه الدول، لا سيما إسرائيل وإيران، أو بسبب الحساسيات حيال تركيا. وإذ ألحت الولايات المتحدة دائمة على التطبيع العربي– الإسرائيلي من دون أي مبادرة متوازنة، فإنها شجعت في عهد باراك أوباما على تفاهم عربي– إيراني لكن أيضاً من دون ضوابط للطرف الإيراني. ولا تتبنى إدارة جو بايدن الاتجاه نفسه فحسب، بل إن انسحابها من أفغانستان يجعله خياراً إلزامياً ويمثل دفعاً عملياً إليه.

تغيرت الآن تلك الصيغة العربية الثلاثية، التي اختصت بالشرق الأوسط وبالقضية الفلسطينية تحديداً، بسبب أوضاع سورية التي باتت مناطق نفوذ للدول الإقليمية الثلاث، إضافة إلى روسيا والولايات المتحدة. هناك محاولات لملء الفراغ الذي تركته سورية، أو لمساعدتها على العودة إلى دورها، وربما تأتي مبادرات الإمارات والأردن في هذا السياق إلا أن فاعليتها تصطدم بطبيعة النظام السوري وبتعقيدات الواقع على الأرض، بمقدار ما تتوقف على وفاق أمريكي– روسي لا يزال صعباً. وفيما يعاني الشرق الأوسط والخليج من سباق محاور داخلية أو مرتبطة بالإشكالات الدولية والإقليمية، لا يبدو المغرب العربي بأفضل حال، خصوصاً بعد القطيعة التي قررتها الجزائر مع المغرب على خلفية رفضها الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء الغربية وما رافقه من تطبيع للعلاقات المغربية– الإسرائيلية. ثم أن الأزمة الليبية وتداعياتها فرضت أيضاً تنافساً مغاربياً ومحاولات لرسم محاور ضائعة بين التدخلين التركي والروسي، وبين أدوار أميركية وأوروبية دائمة التقلب بين تفاهمات وتناقضات.

فشلت الانتفاضات الشعبية العربية وانكفأ ما سمي «الربيع العربي» بعدما استثار كل الانقسامات الاجتماعية. تأذى العالم العربي كثيراً جراء هذا الفشل، وتعرضت قضاياه العادلة لأسوأ الأضرار. لم تسنح الفرصة التاريخية لتحقيق «التغيير» الذي صدحت به الشوارع والساحات، أما «قوى التغيير» المفترضة فجربت وجازفت، لكن من دون جدوى، إذ إن نقص الخبرة وهوس التسلط والنهم إلى المكاسب لم تمكنها من إنتاج أنظمة بديلة أكثر عدالة أو من إنهاض الاقتصادات من عثراتها وتخلفها. فالذين خرجوا بالأمس للدفاع عن حقوقهم الأساسية يخرجون اليوم للمطالبة بحد أدنى من العيش السوي. لا أحد يتذكر أن تلك الانقسامات كانت إرث الأنظمة المتساقطة لشعوبها، أو أن الاقتصاد/ «الاستقرار» كان صامداً فقط بتوفر غطاء سياسي خارجي لتلك الأنظمة، وليس بفضل استغلال جيد للموارد الداخلية والمساهمات الدولية أو حسن إدارة لديناميات الإنتاج والنمو. والأسوأ أن أحداً لا يريد الاعتراف بأن تصحيح مسارات البلدان المأزومة يبدأ بالضرورة من معالجة الانقسامات لئلا تتحول إلى حروب أهلية بلا أي آفاق.

طوال العقد الماضي أظهرت الانتفاضات الشعبية، إذاً، ما عندها من تحولات سياسية وانهيارات اقتصادية وتوترات اجتماعية، وعلى قاعدة إخفاقاتها يبدو العقد الحالي مفتوحاً على تحولات عربية على مستوى الدول والحكومات، لكن في اتجاه القوى الإقليمية وبداية تغيير في نمط العلاقات. تتقدم مصر خطوة خطوة نحو تطبيع علاقاتها مع تركيا، وتتحاور السعودية مع إيران في بغداد، وتؤسس الإمارات نموذجاً متكاملاً إذ تفتح صفحة جديدة مع تركيا وتطور توافقاً مع إيران من دون أن يؤثر ذلك في التطبيع الذي أقامته مع إسرائيل. من الواضح أن تركيا وإسرائيل تحاولان التكيف مع هذا التوجه، وإن بطرق ومفاهيم مختلفة، أما إيران فلا تبدو جاهزة بعد وإلا لكانت طبقت أقوالها عن «الانفتاح على الجوار»، والمقصود به السعودية، بأفعال طالما أن حوارها مع الرياض يقوم على خفض التوترات. أما إثيوبيا، وهي دولة إقليمية مطلوب التوافق معها، ففوتت فرص الوئام مع مصر والسودان بتعنتها في قضية «سد النهضة» حتى أنها لم تستجب الوساطات الخليجية، وها هي الآن تستفز السودان برغم انشغالها بحرب أهلية طاحنة.

تركيا وإيران تحاولان التقارب، كما اعتادتا، دائماً على قاعدة أن المصالح الاقتصادية أولى من الخلافات السياسية، وخصوصاً عندما تكون أنقرة في فترة حرجة مع واشنطن أو يكون هناك اشتباك «تفاوضي» بين إيران والدول الغربية، لكن الإشكالات كثيرة بينهما من سورية إلى العراق وأذربيجان والسباق إلى الخليج. وتبذل تركيا جهداً لجعل العلاقة السياسية مع إسرائيل بمستوى الازدهار التجاري بينهما، آملة بأن يساهم اللوبي الإسرائيلي في تخفيف الضغوط الأمريكية عليها، لكن أنقرة ستكون مدعوة إلى «تصحيح» مواقف أردوغانية تتعلق بإسرائيل «دولة الإرهاب» أو بالتعاطف التركي مع حركة «حماس»، كما كانت حالها ولا تزال بالنسبة إلى عقبة جماعة «الإخوان المسلمين» في ملف التطبيع مع مصر. وإذ تبقى تصفية الخلافات مع السعودية من أبرز الاهتمامات الإقليمية لأنقرة، فإنها خطت فيها خطوات متقدمة لكنها غير كافية بعد لتوقع لقاء قريب على مستوى القمة. وعموماً، تبحث تركيا في كل مساعي التقارب عما يقوي أوراقها في سورية وليبيا حيث تتفق مع روسيا وتتواجه معها في آن.

لا تزال إسرائيل تتطلع فقط إلى المصالح التي تتوخاها من اتفاقات التطبيع التي وقعتها مع أربع دول عربية ولا تعتبر نفسها ملزمة بشيء حيال الشعب الفلسطيني وحقوقه، وهذا نقص فادح في العملية برمتها، ومن شأنها أن تترك المجتمعات مشككة ومتوجسة من هذا التطبيع. في الوقت نفسه لم يسجل دخول إسرائيل على الخط الإقليمي التأثير المتوقع في موازين القوى أمنياً أو عسكرياً وسط الاختلال الذي تشهده المنطقة بسبب تقليص الوجود الأمريكي وإعادة النظر قي تموضعاته. ربما يعزا ذلك الى أن اختلاف تطبيق الاستراتيجية الأمريكية بين الإدارتين السابقة والحالية، إلا أن جو المواجهة الذي تتبادل إيران وإسرائيل فرضه على المنطقة لم يتغير، وهو مقلق جداً للدول العربية التي تريد تجنب الانجرار إلى حرب جديدة أو الوقوع في صراع عسكري قابل للتوسع. لذلك ينبغي مراقبة التقاربات من زاوية المواجهة المحتملة إذا فشلت مفاوضات فيينا.

ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»