عبدالوهاب بدرخان

حاول وزير الدفاع الأمريكي أن يكون مقنعاً، خلال مداخلته في «حوار المنامة»، بأن التزام الولايات المتحدة أمن الشرق الأوسط لم يتغير ولم يتراجع، لكن سيل الأسئلة التي وجهت إليه كان مشككاً، بل إن السؤال الأكثر وضوحاً جاءه من أحد الإسرائيليين: كثيرون يرون أن أمريكا لم تعد قادرة على الردع، لقد تعرضتم لهجوم بطائرات مسيرة في سورية فلماذا لم تردوا عليه؟ كان الجنرال لويد أوستن أشار إلى المسيرات باعتبارها أحد أبرز التهديدات المستقبلية التي تمارسها إيران، إلا أنه لم يجب بشكل مباشر في شأن الهجوم (ليل 21 أكتوبر الماضي) على قاعدة التنف عند المثلث الحدودي السوري - الأردني - العراقي، وكرر أن الالتزام الأمريكي سيبقى قائماً و«يجب ألا تتوهم إيران أن شراكاتنا في المنطقة ستنتهي». لم تعد الولايات المتحدة ترى عملها في المنطقة إلا مع شبكة الشركاء ومن خلالها، وبـ«القوة الكاملة للشراكة» التي يفترض أن تعوض أي نقص يطرأ عن الانسحابات الأمريكية.

في ذلك استنهاض وتحفيز لدور الشركاء كافة بمن فيهم العرب في الدفاع عن بلدانهم، وقطع مع نمط الاعتماد حصرياً على القوة الأمريكية الحاسمة، خصوصاً أن جيوشهم باتت أكثر تأهيلاً وأفضل تسليحاً. مبدئياً، ثمة منطق طبيعي في هذا التوجه، شرط أن يكون البنتاجون ضامن الالتزام الأمريكي، وليس الإدارات المتقلبة أو الكونغرس الذي يخضع لأهواء أعضائه ومصالحهم. حديث «الشراكة» تصاعد على نحو خاص، أخيراً، مع احتياج الأمريكيين إلى جهود الآخرين في عمليات الإجلاء العاجلة من أفغانستان، وعاد يتصاعد أكثر مع اهتزاز اليقين بمسار المفاوضات النووية ونتائجها أو فشلها المحتملَين. فاتفاق 2015 الذي زعزعه الانسحاب الأمريكي منه في 2018 ثم زاد خفض إيران التزاماتها من تقويضه. لذلك تُطرح حالياً، وقبل أسبوع من العودة المرتقبة إلى فيينا، الأسئلة الصعبة ومنها خصوصاً: إذا كان التفاوض جرى في الشهور السابقة على إحياء اتفاق 2015 فهل أن طهران تريد فعلاً العودة إليه؟

كانت في ذلك الاتفاق ثُغرٌ كثيرة فاعتبرته إدارة دونالد ترمب ناقصاً وغير صالح ومنحت الأطراف الأوروبية الموقعة عليه (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) مهلة سنة لإقناع طهران بالموافقة على فتحه والتفاوض على تعديله (لإطالة مهلة سريانه، والبحث في البرنامج الصاروخي وسياسات إيران الإقليمية). رفضت طهران معاودة التفاوض فكان الانسحاب، عندئذ حاولت الضغط على الأوروبيين لتعويضها ما تخسره جراء العقوبات الأمريكية، ولما فشلت في ذلك راحت أواخر 2018 تخفض التزاماتها باستئناف تخصيب اليورانيوم متخطية نسبة الـ%3.76 المحددة في الاتفاق، وشغلت طرازاً محدثاً من أجهزة الطرد المركزي غير المسموح لها باستخدامه، وعلى الرغم من إبداء إدارة جو بايدن استعدادها للعودة إلى الاتفاق ورفع عقوبات ترمب فإن طهران استمرت في إجراءاتها لتصل أولاً إلى نسبة %20 من التخصيب ثم إلى نسبة فوق الـ%60 (13 أبريل 2021) ويُعتقد أن امتناعها عن التعاون مع الوكالة الدولية والتلاعب بكاميرات المراقبة كانا لتغطية تجاوزها تلك النسبة. ويعني ذلك للخبراء العسكريين أنها بلغت «العتبة النووية» ولم تعد بعيدة عن نسبة الـ%90 التي تسمح لها بحيازة سلاح نووي.

هل تهيئ طهران لتفجير مفاجأة نووية/ تخصيبية جديدة عشية عودتها إلى فيينا؟ وإلى أي حد اقتربت من قنبلتها؟ وهل أن روسيا والصين مستعدتان، خلافاً لمواقفهما العلنية، للتعايش مع «إيران نووية»؟ وهل تغيرت «المبادئ» الإيرانية المعلنة (النفي الدائم للسعي إلى «القنبلة»، ثم النفي المدعم بحجج دينية وأخلاقية...) لتصبح إصراراً على اقتناء قوة نووية لمواجهة الإصرار الأمريكي - الإسرائيلي على «منع إيران من الحصول على سلاح نووي»؟ لم يعد المفاوضون الأمريكيون والأوروبيون يستبعدون «مفاجأة» كهذه، إذ لم يجدوا مبررات كافية لسعي طهران إلى كسب الوقت ولا لتلكؤها في العودة إلى التفاوض. وفي غياب معلومات مؤكدة لم يتوغلوا في التكهنات أو في التحليلات، لكن واجب توقع الأسوأ جعلهم يتمسكون بالمعطيات التي توقفت عندها المفاوضات في يونيو الماضي: استعداد أمريكي في مرحلة أولى لرفع رزمة من العقوبات مقابل عودة إيران إلى التزاماتها بموجب اتفاق 2015، وكل طرف يريد التأكد من جدية إجراءات الآخر واختبارها. هناك بالطبع حلول لمشكلة كميات اليورانيوم المخصب بنسب عالية، وسبق للمفاوضات أن واجهت حالات مماثلة في مراحل سابقة (عام 2010). لكن إصرار طهران على «رفع كل العقوبات مقابل العودة إلى كل الالتزامات» يعقد مفاوضات فيينا.

تبدو إيران في عهد المتشددين كأنها تريد الحفاظ على ما أنجزته في برنامجها النووي خلال الأعوام الأخيرة، وقد دعمت ذلك بقوانين أقرها مجلس الشورى في شأن التخصيب ووقف عمليات التفتيش والمراقبة. يتماشى ذلك مع مقاربة المرشد لمفاوضات بلا تنازلات، لكنه يفتقد إلى الواقعية بالنسبة إلى العقوبات، فكيف تتصور طهران رفع جزء منها من دون الرضوخ لقيود اتفاق 2015، وكيف تتخلص من كل العقوبات إذا لم تفاوض على تعديله. لكي تفرض شروطها لا بد أن يكون لديها «إنجاز» محرج ويصعب تحديه. هذا ما يُفهم من البيان الأمريكي - الخليجي الذي اتهم إيران، ما لم تقبل جدياً على التفاوض، بـ«التسبب في أزمة نووية». وبدد المبعوث الأمريكي إلى إيران روبرت مالي الغموض في موقف إيران إذ «تبطئ المفاوضات وتسرع التقدم في برنامجها النووي».

لكن ماذا يعني «التسبب في أزمة نووية»؟ بعبارة مباشرة: سباق إلى تسلح نووي لا تعود الدول الكبرى قادرة على ضبطه، لأن التهديد الإيراني سيتقدم عندئذ في حماية ميليشياته المزودة صواريخ باليستية وطائرات مسيرة ليدعمها بسلاح نووي. وبتعبير أكثر دقة: أدى الإصرار الأمريكي على تجاهل أهداف استراتيجية إيران إلى تمكينها من دعم الإرهاب وزعزعة استقرار المنطقة، وهي الأهداف التي تقول واشنطن، إنها تريد مواجهتها بـ«القوة الكاملة للشراكة». وعلى افتراض أنها جادة مع «الشركاء» فإنها لم تصغِ إليهم عندما كان الخطر الإيراني يتمدد بموازاة التفاوض النووي، وعندما أوشك هذا الخطر على الاكتمال- نووياً - تأتي الآن متأخرة لتنصحهم بوجوب توحيد صفوفهم وجهودهم معها.

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»